بقرات فلسطين المحتلة

30 مارس 2024
30 مارس 2024

إذا كان يوم الأرض الفلسطيني الذي يوافق الثلاثين من مارس من كل عام، مناسبة للاحتفاء بالأرض ومن يعمرها ويحافظ عليها، وهو الإنسان الفلسطيني الصامد، فإنه أيضًا مناسبة لتقديم تلويحة امتنان للحيوانات التي تساعده في مهمته هذه وتسهّل عليه حياته، وعلى رأسها الأبقار، وقد تعدّى دورُها حراثةَ الأرض وتوفير الغذاء والحليب إلى مقاوَمة المحتل أيضًا، وهنا أتحدث تحديدًا عن بقرات بلدة "بيت ساحور" القريبة من بيت لحم، التي وُثِّقتْ حكايتها في فيلم "المطلوبات الــ18" (The Wanted 18)، من إخراج الفلسطيني عامر الشوملي والكندي بول كاون، وهو فيلم نال صدى كبيرًا ورشّحته وزارة الثقافة الفلسطينية ليمثّل فلسطين في الدورة الثامنة والثمانين لجائزة الأوسكار في عام 2016 عن فئة الفيلم الأجنبي.

الحكاية باختصار أن أهالي "بيت ساحور" أعلنوا خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993) العصيانَ المدني، وقرروا مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، بما في ذلك الحليب، بمنطق بسيط أجراه الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله على لسان إحدى شخصيات روايته "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد" (الدار العربية للعلوم، 2019) التي وثقت هي الأخرى الحكاية أدبيّا. يتساءل إسكندر في هذه الرواية: "هل تريدون أن تقنعوا أنفسكم أن أطفالنا الرًضَّع، وأطفالنا الذين يرشقون جنود الاحتلال بالحجارة، سيكون عليهم كل صباح، أو في آخر كل نهار، أن ينتظروا سيارة شركة تنوفا الإسرائيلية لكي تزودهم بالحليب؟ كيف سنستطيع أن نرجمهم وننتظر حليبهم؟". من هنا تفتقت أذهان الأهالي عن فكرة ذكية، وهي أن يشتروا ثماني عشرة بقرة من إحدى المستوطنات الإسرائيلية، وأن يعملوا على تربيتها والحفاظ عليها، وإخفائها متفرقة في حظائر سرية، وهذا ما كان. وقد نجحت التجربة وحققت لهم الاكتفاء الذاتي من الحليب ومنتجاته، الأمر الذي أغضب الحكومة الإسرائيلية بقيادة إسحاق رابين، واعتبرت تلك الأبقار "تهديدًا للأمن القومي الإسرائيلي"!، مقرِّرةً وأد هذه التجربة الرائدة قبل أن تتعمم على بقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، وشرعت في مطاردة البقرات من مكان إلى آخر، ومن حظيرة إلى أخرى، بل ووصل بها الأمر أن تعلق ملصقات إعلانية للأبقار تعلن عن مكافأة مالية لمن يدلي بأي معلومات عنها!

في النهاية نجحت إسرائيل في القبض على "المطلوبات الـ18"، وكان مصيرها الذبح، وهو المصير نفسه الذي ينتظر واحدة على الأقل من خمس بقرات حمراء وصلت إلى إسرائيل في سبتمبر من عام 2022، واستقبلها في مطار بن غوريون مسؤول إسرائيلي بدرجة مدير عام! وحملها إلى حظيرة سرية قيل إنها في الأغوار قرب بيسان، حيث ستظل مخفيّة فيها إلى أن يصبح عمرها عامين. هذه البقرات الحُمْر، ذكّر الناسَ بها أبو عبيدة؛ الناطق الإعلامي باسم المقاومة الفلسطينية، في خطاب له بث في 14يناير الماضي بمناسبة مرور مائة يوم على صمود الشعب الفلسطيني في معركة "طوفان الأقصى" حين قال في معرض حديثه عن عدوان إسرائيل على المسجد الأقصى: "وأُحضِرت البقرات الحُمْر تطبيقًا لخرافة دينية مقيتة مصممة للعدوان على مشاعر أمة كاملة في قلب عروبتها ومسرى نبيه ومعراجه إلى السماء".

إذن فالبقرة المنتظَرة تحمل لونًا نادرًا لم يوجد في بقرة منذ ألفَيْ سنة كما تقول الأسطورة اليهودية، فهي ليست صفراء فاقع لونها كتلك التي طلبوها من النبي موسى وسُمِّيتْ أطولُ سور القرآن باسمها، ولا بيضاء منقّطة بالأسود كتلك التي ظهرت في فيلم (The Wanted 18). هذه المرة البقرة حمراء وتسمى بالعبرية "بارا أدومَّا"، وهي مذكورة في نصوص المشناة (شروح التوراة) التي هي جزء من التلمود، ولتؤدي الغرض منها يُشترَط أن يكون لونها أحمر بالكامل، ولا يوجد فيها شعرتان من لون آخر، كما يُشتَرط أن تكون مولودة ولادة طبيعية، وأن تربّى و"تترعرع" في ما يسمّى "أرض إسرائيل"، وأن تُكمل عامها الثاني بعد الولادة دون أن تَحمِل أو تُحْلَب أو يُوضع برقبتها حبل. باختصار ينبغي أن تكون البقرةَ المدللة التي تنافس بقرة "لافاش كيري" الشهيرة في إعلانات الجبن.

لكن هذا الدلال لن يستمر طويلًا، فحين يكتمل العامان ستُستخدَم البقرة الحمراء في عملية يُخطَّط أن تجري فوق جبل الزيتون في القدس مقابل المسجد الأقصى، حيث ستُذبح بطريقة وطقوس خاصة، ثم تُحرق بطقوس أخرى، ويستخدم رمادها في عملية ما يُسمى "تطهير الشعب اليهودي"، وهذا "التطهير" سيسمح لملايين اليهود بدخول ما يسمى "جبل المعبد" الذي سيبنى على أنقاض المسجد الأقصى، أو هكذا يحلمون. بيد أن اليهود ليسوا وحدهم المؤمنين بأهمية ولادة هذه البقرة الحمراء، بل حتى المسيحيون، وتحديدًا الطائفة الإنجيلية التي تعتبر ظهور البقرة الحمراء بشارة بنهاية الزمان وعودة المسيح إلى الأرض، وهذا ما يُفسِّر أن بقرات تكساس الحُمْر الخمس، كانت هدية من مربي ماشية مسيحيين من هذه الطائفة تحديدا.

ويبدو أن كل البقرات مهما تفاوتت أهميتها لها مصير واحد في النهاية: الذبح، ويستوي أن يكون هذا الذبح لإحياء ميت، كما في القرآن، أو لطقوس وشعائر دينية كما في معظم الأديان باستثناء الهندوسية، أو بسبب الجوع، كما هي حال بقرة الكاتبة الفلسطينية سعاد العامري في روايتها "بدلة إنجليزية، وبقرة يهودية" (منشورات المتوسط، 2022). في هذه الرواية تلعب "البقرة" دورًا كبيرا في تقدم الأحداث وتطورها. فــ"شمس"، بطلة الرواية، ابنة قرية "سَلَمة" الفلسطينية، هُجِّرتْ هي وعائلتها من بيتها فلجأت مع عائلات أخرى إلى مزرعة خضار شرق اللد، وهناك عثروا على بقرة عرفوا من بعض من سبقهم إليها أنّها ملك لفلسطيني هاجر إلى الأردن. ولأن الجوع أخذ منهم كل مأخذ، والبقرة لم يعد لها صاحب، فقد ذبحوها لسدّ جوعهم الشديد، وهنا بدأت المشكلة الجديدة التي لا تقل عن مشكلة التهجير، فقد داهمت الفلسطينيين ميليشيّاتٌ يهوديّة بعد أن ادعى أحد المستوطنين أنّهم سرقوا بقرته، فيُعتقل "خليل" والد شمس، وتختفي والدتها وشقيقها، وتبقى شمس مع شقيقتيها متشرّدات لا يلوين على شيء حتّى تعطف عليهن أمّ محمود وتحملهن معها. كانت البقرة المذبوحة هولندية، لكن سعاد العامري جعلتها "يهودية" في إشارة إلى هيمنة اليهود على كل شيء، وهو ما يرد صراحة في الرواية على لسان إحدى شخصياتها: "أنا بعرف إنّه كلّ شي حوالينا صار يهودي، مدنّا وبيوتنا ومحلّاتنا ومستشفياتنا وبلدنا كلّها، بس ما عرفت إنُّه البقرة الهولنديّة برضو صارت يهوديّة!".

في الحقيقة، مهما حاولوا "تهويد" البقر، فإنه يظل فلسطينيًّا رغمًا عنهم، لسبب بسيط؛ أن الأرض التي يعيش فيها، والتي نحتفل اليوم بيومها، هي فلسطينية أبًا عن جدّ، وهو ما حاول فيلم "المطلوبات الـــ18" قوله في نهايته التي لم يلتزم فيها بالنهاية الحقيقية التي كانت في الواقع (وهي القبض على البقرات وذبحها)، فقد هربت بقرة صغيرة من العربة التي تُقِلّها وزميلاتها إلى المسلخ، ونجت بنفسها بادئة حياة جديدة، في إشارة إلى أن الحياة في فلسطين ببشرها وحجرها وحيواناتها مستمرة رغم كل شيء.