المنهج.. ونسبية الفكرة

21 نوفمبر 2022
21 نوفمبر 2022

(أنا أشك.. إذاً أنا أفكر.. إذاً أنا موجود).. عبارة شهيرة للفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت (ت:1650م)، تعتبر حجر المعراج الذي صعد عليه إلى فهم نفسه وفهم الوجود من حوله، ثم لإثبات الحقائق عن الوجود، وأعلاها شأناً وجود خالق للكون. وهي أيضاً القاعدة الأساس التي بنى عليها ديكارت "الشك المنهجي". المقال.. ينطلق من هذه العبارة بمنحىً فلسفي ليس بعيداً عن الشك الديكارتي، للحديث عن الفكرة -الإنسان لا وجود معنوي له بدون تفكيره- وعن مدى نسبيتها، والمنهج المعياري الذي يمكن أن يحتكم إليه في تقرير سلامتها وعلتها.

الحكم على الفكرة يلزم فهمها، وقد سلكتُ في ذلك درباً طويلاً، حيث كتبت منذ 12 عاماً مقالات مؤسسة لفهم الفكرة، نُشرِتْ في ملحق "شرفات" بجريدة "عمان"، منها: "المتبقي في الفكر" و"الموسيقى والفكرة". ذهبت فيها إلى أن الفكرة هي حصيلة التفاعل بين المعلومة التي يتحصّل عليها الإنسان بحواسه، وبين حاملها؛ وهو السيال العصبي المرتبط بالدماغ. فالفكرة.. ليست "كائناً بريئاً"، وإنما هي محملة بهواجس الإنسان، وبذكائه وأوهامه، وبآلامه وآماله، بالذات؛ لحظة تفاعلها مع العصب، ثم تخرج عبر لغة لسانه وجسده، لتتحول إلى معلومة جديدة. ونحن القارئين الخارجيين لهذه المعلومة لن ندرك إلا جانباً من التفكير فيها الذي اعتلج في نفس الإنسان، فما نراه هو الجزء الطافي فوق سطح الذهن، والجزء الأكبر منها غائص في بحر النفس، بل أحياناً لا يستطيع صاحب الفكرة ذاته أن يسبر غورها.

أضف إلى ذلك.. أن المعلومة هي سليلة آباء لا يحصى عددهم ولا يعرف أشخاصهم، فقد سافرت عبر منظومات معرفية؛ بعضها ظاهر وأغلبها خفي، هذا إن كانت معلومة واحدة، فما بالكم بعشرات المعلومات التي تتفاعل لتوليد فكرة واحدة، علينا أن نتخيّل مئات الأفكار التي تزدحم بها أدمغتنا؛ كم هو الظاهر منها الذي يمكن أن يمسك بعنانه المفكِّرُ نفسه، وما مقدار ما نعرفه من تفكيره، فضلاً عن أسراب المنظومات المعرفية السرية التي تحط في تلافيف نفسه، فتعمل عملها مع العصب.

هذه المقدمة تضعنا أمام حقيقة؛ أن الفكرة هي بناء معرفي نفسي، ازدحمت فيه الأبنية النفسية للذين استمددنا معارفهم، ولذلك؛ يصعب غض الطرف عن النسبيات المتراكمة في المعلومات المشكّلة للفكرة الواحدة. قد يقول قائل: طالما أن الفكرة تعاني من ضروب نسبيات العقول التي مرت عليها؛ فإن الحق أو الباطل مع الجميع. وهذا لا يمكن التسليم له، لأنه يُخرِج الحياة عن كل معنى، مما يجعلها في عبثية هلامية أو عدمية قاتلة، وهذا غير دقيق، إلا إذا تصورنا بأن العقل غير قادر على تنظيم وجوده في الحياة، وهذا غير حاصل، فالإنسان هو الكائن الوحيد المقتدر على تنظيم حياته وتنظيم ما حوله وما يتصل به ويفكر فيه. ولا أنكر وجود العبثية والعدمية؛ نفسيا وفلسفيا، إلا أنهما لم تتحولا لتيار جمعي، وظلتا تعانيان من الفردية، وهذا مفهوم في ظل ما يعتري الإنسان من هواجس نفسية وعلل اجتماعية. لكن الخط العام للإنسانية ارتكز على وجود معنى للحياة، مما يعني أن الفكرة لم تطح بها رياح النسبية.

إذاً؛ كيف نطمئن إلى سلامة الفكرة في ظل "الانسياح النسبي" الذي يطم عليها موجه من كل جانب؟ الجواب: بالاحتكام إلى المنهج. ولكن ما هو المنهج؟ وكيف نحتكم إليه؟ المنهج.. هو "الأداة العقلية" التي تنظّم أفكارنا وتصرفاتنا، إذ العقل لديه كفاءة عالية لينظم المعلومات الواردة إليه في منظومة فكرية، فهو لا تلج إليه المعلومة وتظل حرة في الفراغ، فلا محل للفراغ في العقل، بل تنتظم فيه هذه المعلومة مع سائر المعلومات التي ولجت إليه في نسق فكري واعٍ، فيَنْظُم هذه الأنساق في منظومة تفكيره الكلية؛ التي هي المنهج لا غيره. ولدى العقل قدرة فورية على إعادة بناء التفكير وفق تطور منهجه. مهلاً.. أليس العقل هو عملية التفكير في المعلومات الوالجة إليه عبر حواس الإنسان وعصبه؟ بمعنى؛ أن المنهج هو ذاته يعاني من النسبية، فكيف نحاكم الفكرة إلى نسبي؟

بدايةً؛ علينا أن نسلّم بأننا لا يمكن أن ننفذ من أقطار النسبية، فهي أحد أسس وجود العقل وفاعليته، ولو عدمت لما ثارت الأسئلة، ولما وجد الفضول المعرفي له محلاً. فالسؤال والفضول.. هما من وقود عمل العقل، وهذا ليس لفهم الوجود من حولنا حتى نقتدر على التعامل معه فحسب، بل لأن العقل بالأساس هذه خاصيته.

المنهج.. غير معلق في الفضاء، بل ينتصب على عُمُد رصينة ثابتة؛ منها:

- الانسجام بين مكونات المنهج؛ أي العلاقات التي تنتظم التفكير، فأي منهج مكوناته متنافرة وغير مستقرة في نسق واحد متآصر؛ فهو يعاني من خلل لا يمكن أن يكون صاحبه سوياً في التفكير. فمثلاً؛ الإنسان الذي منهجه الأخذ بمبدأ السببية، ثم يتوقع زوال فقره بالأماني، هذا تفكيره غير منسجم مع منهجه، بل أصلاً لن يفكر بهذه الطريقة، لأن المنهج ذاته يتحكم في التفكير، فمبدأ السببية.. يوجب الأخذ بالأسباب التي تقضي على الفقر.

- القيم الأخلاقية.. أمر ضروري لسلامة المنهج، فهو لا يتشكل بدون قيمة، بمعنى؛ أنه لا يوجد إنسان غير منتمٍ، فالإنسان.. بجبلته مؤمن، ولكي يكون المنهج سليماً فيجب أن ينتظم في سلك الأخلاق الفاضلة. من يكن منهجه الفكري قائماً على العدل؛ سيضبط أفكاره بما يتوافق مع هذا الخُلُق الرفيع، بل سيحكم على أي فكر أو عمل بناءً على موافقته للعدالة.

- التجربة.. من أهم أعمدة المنهج الفكري، والمقصود بها؛ أن العقل يمر كل لحظة بمواقف تجعله يعدّل تلقائياً من منهجه، أحياناً بتجارب بسيطة خفية التأثير، وتارة بتجارب حادة واضحة التأثير. مثلاً؛ يقرأ الإنسان كتاباً يؤثر فيه؛ فيجعله يطوّر من منهجه، لكن هذه التجربة المعرفية تظل بسيطة عندما نقارنها بتجربة الصراع التي تمر البشرية بها، ويكون هو أحد منكوبيها، كما حدث في الربيع العربي. فكم من إنسان اكتوى بنيران هذه التجربة وأحدثت له مراجعات في منهجه الفكري. لكن أية تجربة لمعرفة سلامة الاستفادة منها في المنهج؛ ينبغي أن تكون محكومة بالانسجام مع مكونات المنهج والقيم الأخلاقية، وإلا انحرفت به التجربة إلى التطرف في المنهج، ما يستتبعه غلو في الفكر. إن التجربة تجعل النسبية منكشفة أمام العقل في ظل الاعتصام بالقيم الأخلاقية.

- التقييم.. ضروري للحد من نسبية المنهج. وإن كانت التجربة هي العنصر الخارجي المؤثر عليه؛ فإن التقييم هو العنصر الداخلي. وتكمن أهميته بأنه المعادل الموضوعي للتجربة. كما أن الإنسان يأتيه بصورة واعية، مدركاً نموه الفكري، والاتجاه الذي ينحو إليه، منتبهاً بفعل ممارسة الحياة للأخطاء التي يقع فيها. وإذا كانت التجربة تحصل اعتيادياً؛ سواءً قمنا بها بأنفسنا كالقراءة أو اضطررنا إليها كالحرب، فإن التقييم لا يحصل إلا برغبة أكيدة في النفس. والإنسان.. الذي ينمو منهجه وفقاً للوضع الاجتماعي، أو للمصالح الآنية، أو تقليداً للآخر، دون أن يضبطه بالانسجام والأخلاق؛ فإن حكمه على الأشياء إما أن يكون جازماً، وهذا مؤدٍ إلى الإفراط، وإما ضبابياً، وهذا يقتضي التفريط.

وفي كل الأحوال.. على الإنسان أن يبذل جَهده في ضبط منهجه؛ لكي تستقيم أفكاره، ويكون صائباً قدر الإمكان في الحكم على عموم الأفكار، ولكي يقلل من النسبية التي تستحكم عادة على المناهج والأفكار. إن طريق بناء المنهج طويل وسبيل ضبطه شاق، لكن لابد من سلوكه، والمواساة في ذلك؛ أن طبيعة الحياة تحتم السير في هذا الطريق، والعقل مهيأ له.