المسجد الأقصى في القرآن

05 فبراير 2024
05 فبراير 2024

«حادثة الإسراء».. حديث لا ينقضي عجبه، اختلطت فيه المعتقدات بالأساطير، والتاريخ بالسياسة، والآمال بالآلام، إلا أنه مؤثر وباقٍ ما لم يحصل تحول في بُنية الاجتماع المسلم، يعقبه مراجعة التصورات المؤدية إلى إعادة بناء ذهنية المسلمين. وفلسطين.. بمقدساتها لم تقتصر على المسلمين، فالأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام؛ كلها ترى أن لها مقدسات فيها، حتى فرض الاستعمارُ الغربي الكيانَ الصهيوني في فلسطين فعمل على مصادرة حقوق المسيحيين والمسلمين. المقال.. يأتي ضمن سلسلة مقالاتي عن طوفان الأقصى، ومتزامنا مع احتفال المسلمين بالإسراء، ليقرأ قضية الأقصى من القرآن.

القرآن.. الذي جاء هداية للناس إلى الله، واستمد من التاريخ ما يخدم هذه الهداية، يُعتبَر أهم وثيقة لفهم علاقة الإسلام بالأقصى، إلا أنه من الصعب التوصل إلى وقائع تأريخية كما حدثت؛ لتعرّض آياته إلى التأويل، وحملها على سياقات «ما بعد نبوية» كالصراع بين المسلمين أنفسهم، ثم مع الصليبيين، وأخيرا مع الصهاينة. وحركة التأويل متواصلة إلى زمننا، حيث يُعاد تفسير النص حسب متغيرات الواقع وتطورات الأفهام، حتى قال البعض: إن النبي لم يُسرَ به إلى الأقصى الذي بفلسطين، وإن أنبياء بني إسرائيل لم يكن لهم وجود بها حتى يكون بها هذا المسجد، فالمسجد بناه المسلمون بعد فتحهم الشام. وكأنهم أرادوا سحب المشروعية عن الصهيونية، وغفل هؤلاء بأن الصهيونية لا تسير وفق استنتاجاتهم، كما أن وقائع التاريخ زمن الدعوة المحمدية لا تخدم طرحهم، وقد بيّنت ذلك في مقال بعنوان «الإسراء.. من الواقع إلى المتخيّل»، المنشور في جريدة «عمان» بتاريخ: 28/ 2/ 2022م.

إذا بحثنا عن نص ظاهر في القرآن يدل على الأمكنة والأحداث بفلسطين لتعذّر علينا، وليس أمامنا إلا قراءة سياقه الداخلي، وعلى حدِّ قول ابن بركة البَهلوي: (القرآن دليل بنفسه). بداية؛ القرآن.. لا يسوق القصص للأدب ذاته، بل كل قصة تعالج وضعا تمر به الدعوة المحمدية، وهو بناء القصة -وإنْ وردت بلسان المتقدمين- بما يتفق مع السياق الذي ترد فيه، ولذلك؛ تختلف صياغتها من سورة إلى أخرى، لاختلاف الأحوال التي تعالجها والمقاصد التي تبتغيها. فما يذكره القرآن من قصص النبي موسى مع قومه إنما داعيه ما يمر به النبي محمد مع قومه من العرب، أو مع بني إسرائيل الموجودين في جزيرة العرب، خاصة المدينة المنورة. ذلك هو السياق الذي ينبغي أن نقرأ به القصص القرآني.

جاء القرآن بتوحيد الله، والأنبياء المذكورون فيه دعاة إلى الوحدانية، وقد بذلوا جَهدهم لتحقيق هذه الغاية، بل أن بعضهم قُتِل من قِبَل الكافرين بهم: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) «النساء:155». والقرآن.. مكمّل لخط كتب أنبياء بني إسرائيل، فجعل من تاريخهم مقدمة للدعوة المحمدية، ودعا باستمرار معاصري تنزّله منهم أن يدخلوا في خطه التوحيدي، وأن النبي محمد لا ينقض ما جاء به أنبياؤهم، ولا يصادر تأريخهم التوحيدي، بل يسير عليه: (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ) «الأحقاف:9».

وكما أزال القرآن الشرك من القصص المنسوبة إلى الأنبياء في كتبهم، في إطار بناء منظومة الإيمان بالله وحده؛ كذلك عُني النبي بـ«تطهير» مقدسات الأنبياء من الشرك، فقد «طهّر» المسجد الحرام؛ البيت الذي رفع قواعده النبي إبراهيم «الأب» المشترك للعرب؛ أميهم وكتابيهم، وأعاد القرآن بناء هذه الأبوة، من كونها نسبًا حَمِيَته قبلية إلى إيمان تفاعله إنسانيًا. وكذلك الحال بالنسبة لموسى، فهو من الأنبياء المنتسبين إلى «الشجرة الإبراهيمية» وداعٍ إلى وحدانية الله، فالقرآن.. أولى الاهتمام بما قام به بسبب ذلك، وبسبب أن المنتسبين إليه كان لهم دور مؤثر على المسلمين داخل مجتمعهم وخارجه؛ لاسيما في فلسطين و«البيت المقدس».

كان اتجاه النبي والمسلمين في صلواتهم بمكة إلى الكعبة، بيد أنه لم يُفرَض؛ خاصةً لمن كان خارج مكة. فالدعوة حينها كانت عامة للإيمان، ولم تقم بتوجيه الناس في عبادتهم وصلواتهم بقدر عنايتها بالتوحيد والأخلاق: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) «البقرة:177».

الهجرة من مكة إلى المدينة.. أحدثت تحولا في بناء الاجتماع المسلم، فقد انتقل المسلمون لمرحلة جديدة، حيث وجدوا بني إسرائيل بالمدينة يتجهون إلى قِبلتهم بالشام، فكان على المسلمين أيضًا أن يحددوا قِبلتهم، فوقع النبي بين أمرين: بين الاتجاه إلى البيت الحرام؛ الذي رفع إبراهيم قواعده، وبمرور الزمن غدا بيتًا للأوثان ومحجًا للوثنية، وبين الاتجاه إلى «البيت المقدس» قِبلة بني إسرائيل، فغلّب التوجه إليه لما بقي لديهم آثار من توحيد الله، ورجاءَ أن يدخلوا في دعوته الحنيفية، وهذا ما نجد صداه بتفضيل الله بني إسرائيل: (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) «البقرة:47».

سعى النبي الخاتم مرتين سريًا إلى المسجد الأقصى -الذي لم يبقَ من معالم بنائه شيء- لإحيائه بالتوحيد، حسب «سورة الإسراء»، وقد بيّنت ذلك في مقالي المذكور أعلاه. ورغم أن الدعوة الجديدة انتصرت لأنبياء بني إسرائيل وخطهم التوحيدي، إلا أنهم وقفوا ضدها، ودخلوا في حرب مع المسلمين. وأمام هذا كله أخذ المسلمون يتولون عن القِبلة الشامية، فأصبح النبي «يقلّب وجهه في السماء»، حتى حسم الله ذلك بأمره بالتوجه إلى المسجد الحرام: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ، وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ، الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ، الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ، وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) «البقرة:142-150».

مدرك ما يحدث الآن بفلسطين من الصراع بين الفلسطينيين أصحاب الأرض والاحتلال الصهيوني الغاصب، ومتتبع للقراءات المعاصرة لتفسير القرآن؛ لاسيما في ظل التشكك من التفسير التقليدي، لكن علينا ألّا يسحبنا ذلك بعيدًا عن سياق نزول القرآن ومنطقه الداخلي، فـ«سورة الإسراء» -واسمها كذلك «سورة بني إسرائيل»- تتحدث عن بني إسرائيل، فلا يمكن الفصل بين رأس السورة وهيكلها، وإلا لاختل نظمها وتبدد سياقها.