العقل القرآني
العقل.. منه يبدأ الإنسان وإليه ينتهي. ولولاه لما كان له رتبة تعلو منزلة الحيوان. وقد احتار الناس في فهمه؛ حيرتهم في الموقف من معطياته. لقد كتبت كثيرا عن العقل، منه مقال «بؤس العقل»، نشر في جريدة «عمان» بتاريخ: 28/ 3/ 2021م، فقلت فيه: (العقل.. عظيم، ولا شيء بشريا يحدث خارج نطاقه مطلقا، هو أداة التفكير الذي ينبثق منه العمل، فاللغة والمعتقدات والأساطير والفلسفة والاختراعات والعمران والعلاقات البشرية والنظرة للكون؛ كلها فيض من العقل. وبه عُرِفَ الله. ولولا العقل لم يدرك الإنسان نفسه؛ فضلا أن يدرك غيره، ولم يعتره الحزن والفرح، أو يشعر بالصحة والمرض، أو بالانتقال من شبابه إلى هرمه، ولم يميّز بين الحياة والموت. إنه الحقيقة الوجودية للإنسان، وإلا لكان عدميا؛ لا قيمة لوجوده أبدا).
لا يوجد عقل واحد، بل هي عقول بعدد البشر، فهو البصمة الفريدة للإنسان، التي لا تتكرر بين أفراده. نعم؛ هناك «العقل الكوني»، لكنه لا يعدم الخلاف حول مشتركاته. وقد ضربت أمثلة على تنوع العقول في كتابي «السياسة بالدين»؛ منها:
(العقل الإنساني.. وهو منطق التفكير الإنساني عامة بحسب المشتركات المعرفية. والعقل الخالص.. الذي لا يخضع إلا للتأمل فقط. والعقل الفلسفي.. يسعى إلى فهم أصول الأشياء وماهيتها ومصائرها ومآلاتها. والعقل السببي.. يبني أصول تفكيره على قانون السببية في الوجود. والعقل السنني.. تهيمن عليه سنن الوجود المطردة في فهم الأشياء وتحليلها. والعقل الفيزيائي.. يعتبر سلامة التفكير قائمة على الحقائق التي تقف خلف الظواهر الطبيعية في الكون. والعقل التجريبي.. الذي لا يسلّم إلا بما تمنحه إياه التجربة. والعقل الحسي.. تكون مقدماته العناصر التي يمسكها الحس البشري. والعقل الميتافيزيقي.. يبحث في مُثُل ما وراء الظواهر الطبيعية. العقل العرفاني.. يؤمن بالتجربة الذاتية الداخلية للإنسان. والعقل الديني.. يضع مقولاته الدينية مقدمات لتفكيره)، وهنا أتحدث عن «العقل القرآني».
«العقل».. في القرآن لا يرد بصيغة الاسم، وإنما بصيغة الفعل «عَقَل»؛ مثل: يعقلون وتعقلون، حيث ورد 49 مرة. كما أنه يرد بصيغ أخرى كفقه وذكر وتدبر وتفكر.
أما محل التعقل من الإنسان؛ فقد ذكره القرآن بأنه في «القلوب التي في الصدور»: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) الأنبياء:46، وهذه الآية أثارت جدلاً عريضاً؛ بين حقيقة ما ذكره القرآن والواقع التشريحي للجسد الذي قرر أن العقل في الدماغ. لكن القرآن يتكلم عن «أحوال» لا «أوصاف»، وقد تحدثت عنها في مقال «الأحوال.. في لغة القرآن» بجريدة «عمان»، بتاريخ: 28/ 3/ 2023م، جاء فيه: (إن كثيرا مما يستعمله القرآن بهذه الصيغ أي بحسب التقسيم اللغوي: اسم وفعل وحرف هو في نظمه المحكم -البيّن بنفسه- تعبير عن حالة يعيشها الإنسان؛ نفسيا واجتماعيا، بل تشكل شبكة من العلاقات الإنسانية، لا تنفصم عراها، وهو ما أسميه بالأحوال. وأما تقسيم اللغويين فلا يعدو التوصيف؛ الذي يحتاج إلى تأويل وإيضاح... إن من التقصير في حق لغة القرآن أن نحبسها في تقعيد أهل اللغة، دون أن نلحظ الروح الأعلى الذي نقل الله به الكلام من التوصيف إلى الأحوال).
يقول الله: (لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ، وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) الأنبياء:53-54، فقلوب المنافقين تشريحيا لا تختلف عن قلوب المؤمنين، فليست هناك لحظة يكون فيها عضو القلب قاسياً ولحظة خابتاً، بل هي أحوال تجول في النفس الإنسانية، فيصدر منها العمل: (فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) لقمان:23 .
إن استعمال «الاسم» ويراد به «الحال»؛ من بليغ البيان القرآني، يقول الله: (وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) الإسراء:64، فـ«الصوت والخيل والرَجِل والمشاركة» لإبليس؛ لا وجود لها على سبيل الاسمية والوصف، بل هي أحوال الوسوسة يبثها في أتباعه. إذاً؛ لا أجد في القرآن التعارض المثار حول مصداقية القرآن مع الواقع، والذي اتخذ منه النافون لمصدره الإلهي تكأة لهم.
ومن أهم محاور التعقل في القرآن:
- الرجوع إلى العقل لمعرفة صدق القرآن وأنه من عند الله: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافاً كَثِيراً) البقرة:82 . فليس المطلوب تدبر القرآن فحسب، بل إن هذا التدبر موصل إلى الحكم على القرآن بأنه من عند الله.
- الربط بين الكتاب والتعقل: (كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ) ص:29 (لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) الأنبياء:10 . فلا تحصل فائدة من الكتاب المنزل ما لم يتدبره الإنسان ويتعقله. وهنا ندرك وهن عبارة (وجوب تقديم النقل على العقل)، التي يتجادل حولها المسلمون، فمن الأساس جاء القرآن بتدبره بالعقل، فلا حجاب بينهما.
- عدم التعقل مؤدٍ إلى ترك اتّباع كلام الله: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) البقرة:44 ، فالانصراف عن الكتاب وهديه سببه عدم تعقله. والأسوأ منه عندما «يحصل التعقل» لكلام الله ثم يقع التحريف والانصراف عنه، مع سبق الإصرار والترصد: (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) البقرة:75 .
- التحذير من تقليد الآباء والأسلاف مع ترك التعقل: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ) البقرة:170. (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ، مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ، أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) المؤمنون:66-68 .
- من لا يُعمِلون عقولهم يطلبون تبديل القرآن، ولا يرجون لقاء الله: (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) يونس:15-16، (وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُوراً، وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً) الإسراء:45-46 ، وبهذا ندرك أن دعاة ترك التعقل؛ إما أنهم غير مستوعبين للدعوة القرآنية، أو لديهم غرض آخر غير القرآن.
- جعل الله القرآن عربيا لتعقله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) يوسف:2 ، (إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الزخرف:3 . والعربية.. هنا ليست مجرد النطق، وإنما هي نظام اجتماعي، ثم نظام لغوي يقوم على النظام الاجتماعي، فالتعقل.. هو قراءة القرآن وما قام عليه من أنظمة قراءةً واعية؛ مرتكزها العقل.
- الله يحاسب الناس بما كسبت قلوبهم؛ أي بحسبما عقلوا: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) البقرة:225 .
ختاماً.. لا توجد آية فيها ذم التعقل والتحذير منه، وإنما جاء ذم اتّباع الأهواء: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ) الرعد:37 ، فما أحرى الأمة المسلمة أن تمتلك «عقلاً قرآنياً»؛ تتدبر به أمرها، وتكافح به أهواءها.
