الراحل الذي يزرع الحياة

11 يوليو 2023
11 يوليو 2023

قبل عدة أيام وبدعوة كريمة من قبل الإعلامية والدكتورة حنان الكندية التقيت بالدكتورة نورين البلوشية وهي استشارية جراحة الكبد والمرارة والبنكرياس وزراعة الكبد ورئيسة الرابطة العمانية لزراعة الأعضاء والتي تسعى جاهدة إلى نشر التوعية بأهمية التبرع بالأعضاء بعد (الوفاة دماغيا).

هذا اللقاء الذي جعلني أفكر كثيرا بأهمية التبرع بالأعضاء نتيجة ذلك الإيمان الذي تتحدث عنه بقوة د. نورين كونها في هذا التخصص وكذلك عايشت هذه التجربة بتبرعها بجزء من كبدها لطفلتها قبل عدة سنوات، وتعلم تماما أهمية التبرع للكثير من المرضى لإنقاذ حياتهم بعدما فقدوا الأمل بالشفاء.

جلست أتفكر لحظتها ما الذي يمنعني حقا من الدخول إلى تطبيق (شفاء) التابع لوزارة الصحة العمانية لأسجل رغبتي بالتبرع بأعضاء جسدي حينما أرحل من الحياة؟!

وسألتها مباشرة عن الهاجس الذي شعرت به لحظتها وقلت كيف سيصبح شكل جثماني حينما تنقل الأعضاء منه؟!

ابتسمت وقالت حاله من حال أي جسد يتعرض لعملية نتيجة أي عارض صحي، كمريض القلب أو الدودة الزائدة والخ.. من أمراض تتطلب تدخلا جراحيا يتم بعده تنظيف الجرح وخياطته بشكل مرتب ويتم التعامل مع الجثمان بكل تقدير واحترام ليذهب الراحل وتبقى جميع دعوات الامتنان من قبل الأشخاص الذين أحياهم تلاحقه حتى نهاية العالم برفقة الأجر العظيم الذي قال عنه فضيلة الشيخ الدكتور كهلان بن نبهان الخروصي مساعد مفتي عام السلطنة «إن التبرع بالأعضاء من الصدقات الجارية للإنسان ومن أعظم القربات والأعمال الصالحة».

ورغم أن مؤسسة الإفتاء في سلطنة عمان ووزارة الأوقاف والشؤون الدينية تضع يدها في يد هذه الرابطة لتشجيع أفراد المجتمع على التبرع بالأعضاء، إلا أن الإقبال حتى الآن ما زال ضعيفا مقارنة بأعداد المرضى الذين يعانون وبحاجة ماسة إلى الكبد والقلب والشرايين والكليتين والرئتين والأمعاء والقرنية!

تقول د.نورين البلوشية إن أكثر من 3 آلاف مريض بالفشل العضوي ينتظرون الزراعة حتى الآن، لذا كل أملها أن نصل في السنة الواحد إلى أكثر من 100 ألف مسجل وراغب بالتبرع مع شرط وجود شاهدين من العائلة يخبرهما بذلك عبر تطبيق (شفاء).

وتتابع قائلة: إن التبرع بعد الوفاة فقط ينطبق على الذين يتوفون دماغيا في المستشفيات العمانية، أي ليس كل شخص مسجل في تطبيق (شفاء) من أجل التبرع بالأعضاء ستنطبق عليه هذه الشروط، فمثلا من الألف شخص نسبة الوفاة دماغيا في هذا العدد قليل جدا، لذا فالأعداد الحالية والمسجلة والتي وصلت إلى 8 آلاف وأغلبها من الأجانب المقيمين لدينا غير كافية مقارنة بسكان سلطنة عمان كون نسب الوفاة دماغيا من قبل الراغبين بالتبرع شحيحة.

وللعلم فالموت دماغيا يعني وفاة الخلايا العصبية للدماغ وبالتالي توقف الدماغ عن العمل مع بقاء الجسم على قيد الحياة نتيجة وجود أجهزة التنفس ولا سبيل للحياة مرة أخرى والموت هو المصير، ويتم تحديد المتوفي دماغيا بعد فحوصات دقيقة ومحددة وتخضع لمعايير متعارف عليها للإعلان النهائي عن الوفاة دماغيا.

هذا المتوفى دماغيا هو من يستطيع أن يتبرع قبل تلف جميع أعضائه التي أشرت إليها سابقا، فمتبرع واحد يستطيع أن ينقذ حياة 8 مرضى «ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» هكذا يخبرنا الله عز وجل عن أجر من يصنع لغيره الحياة وهذا الذي ينطبق كليا على المتبرع بأعضائه قبل أن يلتهمها دود الأرض مثلما يقول الإعلامي أحمد الشقيري وهو يتحدث عن ضرورة التبرع بالأعضاء قبل المصير الحتمي لأي إنسان.

ولأعطيكم مثالا بتاريخ 27 مايو 2023م أنقذ أحد الراحلين عن الحياة بعدما توفي دماغيا ثلاثة مرضى كانوا وعائلاتهم يعانون كثيرا من ويلات المرض، فتم من خلاله زراعة الكلية اليمنى لطفلة عمانية بعمر 9 أعوام، وتم كذلك إنقاذ حياة طفل عماني آخر عمره 10 أعوام بزراعة الكلية اليسرى له، وكذلك تمت زراعة كبد لمواطن يبلغ من العمر 46 عاما ليعودوا جميعهم لعائلاتهم سالمين بفضل هذا المتبرع -رحمه الله وأسكنه الجنات- لفعله العظيم. وهنا أود أن أذكر الجميع أن المتبرع والمتوفي دماغيا لن يتم تبرعه إلا بموافقة ذويه حتى وإن سجل وأتى بشاهدين، فما يهم تماما كذلك رضا عائلته قبل كل شيء.

وكم من محظوظ سيرى مثلا خير ابنه الذي غادر الحياة مزروعا في طفل كاد أن يموت لولا هذا التبرع السخي من أجل الأجر العظيم وإحياء الناس وهذه رسالتنا في الحياة أصلا. التبرع بالأعضاء يعني طهارة قلبك من أي أنانية، فرغبتك بذلك ستدل كثيرا على كرمك النقي من أجل الأجر والبحث عن الثواب العظيم حتى بعدما تغادر الحياة فأنت تفكر بغيرك.

هي ثقافة العطاء التي يجب أن تترسخ بسمو في النفوس كي تحيا الحياة بطيبة قلوبكم ورقي أفعالكم التي ستصبح بلا شك ملهمة للكثير.