الخيانة قوة الاستعمار

23 يوليو 2023
23 يوليو 2023

في قراءتي للتاريخ العماني وقضية الاستعمار البرتغالي للمنطقة كنت أتساءل دومًا لماذا تركتنا أغلب الدول الإسلامية وقتها نواجه هذا الاستعمار البغيض الذي استمر لأكثر من 100 سنة؟!

وكيف كان حال الدولة العثمانية في ذلك الوقت وهي التي كانت الرعب الحقيقي للاستعمار البرتغالي وفق ما تشير إليه موسوعة الوثائق البرتغالية في بحر عمان بين عامي 1504-1783م.

كنت أغضب من الداخل لكمية الخذلان التي أدت إلى عدم توحدنا، بل الأكثر من ذلك حال السفن الحربية العثمانية التي وصلت للسواحل العمانية أكثر من مرة وأحدثت بعض المناوشات مع البرتغاليين مع أَسْرهم لمجموعة سفن عمانية لم يتم إطلاق سراحها إلا بعدما افتدت نفسها بأموال طائلة لأنه اختلط الحابل والنابل بالعثمانيين ولم يعد يفرقون بين الضحايا والمتعاونين والخونة على السواء.

فقاسى أجدادنا مزيدا من الألم، هناك تشتت في الداخل العماني وصراعات على السلطة، والمنجد من القوى الإسلامية الأبرز (الدولة العثمانية) لم تستطع تحقيق وحدة حقيقية مع المقاومة العمانية والهرمزية نتيجة كل ما سبق!

والسبب الأكبر طبعا خيانة البعض والذين منعوا وصول رسائل بعض من أراد التحرّر من الاستعمار بطلب النجدة والتنسيق من السلطان العثماني.

ففي هرمز هذه المملكة الثرية جدا والتي يسكنها الفرس والعرب والمسيحيون واليهود كونها مدينة تجارية عالمية امتد نفوذها حتى الموانئ العمانية وبالأخص مدينة قلهات منذ أن كانت العاصمة الأبرز لأثرياء هرمز وبلاد فارس، والميناء الأهم في خطوط التجارة العالمية، والتي ابتُلِيَت كذلك بالاستعمار البرتغالي بقيادة البوكيرك المعروف بقسوته الشديدة منذ احتلاله للمنطقة بداية من عام 1507م.

بعد أن تمكن الاستعمار البرتغالي من المنطقة بأسرها استخدم بعض من تعاون معه من مشايخ هرمز وسادتها مثل السلطان محمد شاه سيف الدين ووزيره شرف الدين الفالي، وهذا الأخير هو من أراد أن يستنجد بالسلطان العثماني لمحاربة البرتغاليين وتوحيد المقاومة في الساحل العماني ضد هذا الاستعمار.

فأرسل شرف الدين الفالي رسالة إلى السلطان العثماني سليمان القانوني سنة 1527م يطلب فيها النجدة قائلا باختصار مخافة الإطالة:

«أبعث إليك أيها الفاتح بصفتي خادمكم الوفي لأخبركم بالضائقة التي أمر بها...، إن هرمز تخضع منذ مدة طويلة لجبروت هؤلاء الكفار الذين يلحقون بنا أذى كبيرا ويسرقوننا ويعرضوننا للضرب المبرح ولا يتوقفون عن صفعنا، إن معاناتنا هذه لم تدفع أحدا لحد الساعة للتحرك إلى هذه الجهة لمحاربتهم وهو ما نتمنى أن يفعله السلطان سليمان الساطع نوره كالشمس.. أتوسل إليكم بالله أن تهبوا لنجدتي وأن تنشروا العدل، فأملي كبير في الله.. ليجعل العدد القليل من الجنود الذين ستمدوننا بهم كافيا لإطفاء هذا الحريق الذي نكتوي بلهيبه،. وشاع بيننا خبر قرب وصول الظافر الرئيس سليمان من جهة المضيق مما أفرحنا جميعا، وأربك الكفار كثيرا،.. وخلال اضطرابهم ذاك وصلتهم رسالة عدونا راشد حليف الكفار بشرهم فيها بتوجه سفن الروم (العثمانيين) إلى مملكة عدن وذكر فيها أنه علم بذلك الخبر من شحر التي بعث إليها جواسيسه ومخبريه.. أتوسل إليكم بالله أن تأتوا إلى جهتنا.. فسأضع رجالي رهن إشارتكم، والتمس منكم التوقف في مسقط لاعتقال شيخها المتواطئ مع الكفار...»

هذه الرسالة التي تقرأونها الآن لم تصل للسلطان العثماني بل وصلت لملك البرتغال عن طريق الخونة وتم حفظها في لشبونة من ضمن الوثائق البرتغالية القديمة وتسببت بأسر شرف الدين وسجنه في لشبونة لأكثر من 15 عاما مثلما تشير بعض المصادر التاريخية!

فحامل الرسالة توقف في قلهات والتي كانت كذلك تحت السيطرة البرتغالية المطلقة برفقة عمالهم من حكام هرمز، وكان يومها فيها حليف البرتغاليين سرا واسمه كمال بير حسين الذي ما إن التقى بحامل الرسالة حتى أخذها منه لكي يضيف إليها مثلما أشار إليه رسالة نجدة أخرى للسلطان، ولكنه أخفاها وادّعى فقدانها في اليوم التالي ليرسلها إلى ملك البرتغال عام 1528م قائلا بتصرف من أجل الاختصار:

« إليك يا ملك البرتغال يا سيد بلاد العرب وفارس وباقي الممالك، إنه لما كنت مقيما في قلهات وصل إليها الرئيس خواجة شمس الدين خادم وزير هرمز وأخبرنا أنه موفد من قبل ذلك الوزير إلى السلطان سليمان.. ولما طلبت منه أن يطلعني على رسائل الوزير لكي أكتب بدوري رسائل أسلمها له وافق على طلبي، فأخبرت مير محمود شاه فاقترح ألا نترك تلك الرسائل تغادر المدينة خدمة لجلالتكم، وطلبت من شمس الدين أن يتركها لي إلى صباح اليوم التالي لأعيدها إليه، فادعيت أنها ضاعت مني فشرع في سبي وأمر عبيده بضربي..ولأن أنطونيو حامل هذه الرسالة يتأهب للرحيل للالتحاق بقصر جلالتكم فسينقل لكم هذه الرسالة التي أود أن أطلعكم فيها على الخدمة التي أسديتها لجلالتكم والتي أخفيتها عن المسلمين لكيلا يؤذوني ويعادوني»!

هذه نبذة من الخيانات التي جعلت المستعمر أقوى وتسببت في عدم توحيد الجهود الإسلامية من أجل تخليص المنطقة من الاستعمار البرتغالي.

وكل مستعمر تجده اليوم باقيا لفترات طويلة تأكد تماما بأن مصدر قوته الحقيقية تكمن في الخيانة التي تتعرض لها أي مقاومة، والتاريخ دوما يكرر في هذا الأمر ذاته!

نصر البوسعيدي كاتب عماني