الخوف من الطائرة

11 يونيو 2022
11 يونيو 2022

في حديث تليفزيوني قديم مع موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب أسهب في شرح أسباب خوفه الشديد من ركوب الطائرة، ذلك الخوف الذي دفعه لتجنّب السفر فيها طوال حياته سوى عدة مرات كان فيها مضطرًا. ويبدو أن المذيعة ليلى رستم كانت تعرف بخوفه هذا، فهي التي بادرته بالسؤال: "هل تخاف من الطيارة؟" فأجابها على الفور: "أنا أموت من الطيارة"، ثم أضاف أنه بمجرد رؤيته طائرة لا ينام طوال الليل!.

الخوف من الطائرة هو أحدث مخاوفنا البشرية على حد تعبير ماركيز في مقاله: "فلنكن رجالًا ولنتحدث عن الخوف من الطائرة"، ذلك أنه خوف مستحدث لم يمض عليه إلا قرن ونيف، أي منذ المدة التي اختُرِع فيها الطيران، غير أن الكاتب الكولومبي يضع شرطًا للخائف الحقيقي إذا ما طبقناه على عبدالوهاب فسيُطرد من نادي الخائفين من الطيران. يقول ماركيز: "الخائف الحقيقي ليس من يرفض الطيران، وإنما من يتعلّم الطيران بخوف". عبد الوهاب قال في الحوار ذاته إنه يتجنب ما أمكن السفر بالطائرة ويستعيض عن ذلك بالبحر، وحين واجهته المذيعة بأن الإحصائيات تقول إن حوادث الطائرات أقل بكثير من حوادث السيارات أجابها بأنه سيسألها سؤالًا إن استطاعت الإجابة عنه فسيركب الطائرة في اليوم التالي: ماذا لو حدث ظرف طارئ للطيار وهو في السماء فأراد أن يوقف الطائرة قليلا، أين سيوقفها؟. وبالتأكد لم تُحِر المذيعة جوابا.

من نافلة القول إن الخوف من الطائرة هو شعور عامة الناس، ويتبدى ذلك بتعرُّق راحتَيْ يد راكب الطائرة، وتشبثه بجانبَيْ مقعده عند الإقلاع، وتسارع نبضات قلبه عند المطبات الهوائية أو الهبوط. بل إن الطيارين أنفسهم يخافون كما يروي ماركيز الذي أذهلني في مقاله أن هذا الخوف يبدو لصيقًا بالمبدعين على وجه التحديد. فقد عدّدَ عددًا من هؤلاء الذين يخافون الطائرة، منهم الرسام الشهير بيكاسو الذي يقول: "أنا لا أخاف الموت، لكني أخاف الطائرة"، ومنهم المعماري البرازيلي أوسكار نيمير الذي لا يستخدم الطائرة مطلقا، والروائي البرازيلي خورخي أمادو، والكاتب الفنزويلي ميغيل أوتيرو سيلفا، والمخرج السينمائي البرازيلي روي غييرا، والروائي المكسيكي كارلوس فوينتس، والفنان التشكيلي الإسباني لويس بونويل.

وإذا ما عدنا إلى حديث ماركيز عمّن "يتعلم الطيران بخوف" فإن هذه الوصفة هي التي يُنصَح بها عادةً للتخلص من فوبيا الطائرات، وهي أقرب إلى المثل العربي "وداوِها بالتي كانت هي الداء"، وقد جربها "غابو" بنفسه وكذلك فوينتس وأمادو، وآخرون. بيد أن أطرف طريقة للتخلص من هذه الفوبيا هي طريقة الروائي البيروفي ماريو بارغاس يوسا، الذي ينقل عنه المترجم السعودي عبدالله الزماي في كتابه "حياة الكتابة" مقالا جميلًا بعنوان "كيف تغلبت على خوفي من الطيران" يقول فيه إنه تغلّب على هذا الخوف بطريقة غير متوقعة، خلال رحلة بين العاصمة الأرجنتينية بيونس آيرس والإسبانية مدريد، إذْ اشترى من مطار "إيزيزا" الأرجنتيني رواية قصيرة للروائي الكوبي أليخو كاربنتييه لم يكن قد قرأها من قبل عنوانها "مملكة هذا العالم". يقول يوسا عن تأثير هذه الرواية عليه: "امتصتني جسدا وروحا واقتادتني بعيدا عما يحيط بي ونقلتني لعشر ساعات أو نحو ذلك، هي مدة الرحلة، بعيدا" عن كل شيء، وانتهت السطور الأخيرة عند هبوط الطائرة في مطار باراخاس الإسباني، "كان الكتاب قد استغرق الرحلة، وأخذني بعيدا عن مخاوفي طوال الرحلة". ظل يوسا بعد ذلك يعدّ لكل رحلة جوية كتابها، ليضيف بهذا الحل السحري إلى القراءة فائدة جديدة لم يكن أحدٌ منتبهًا لها من قبل، وهي القضاء على الخوف من الطائرة.