الألم!

31 مايو 2023
31 مايو 2023

تحدثنا في مقال سابق عن «الوفرة السامة» وتأثيرها المباشر في حياة الفرد، والوفرة السامة باختصار شديد؛ هي الوفرة التي تسبب لنا البؤس بدلا من السعادة والاكتفاء. وفي مقال سابق أيضا، تحدثنا عن «رمنسة البؤس»، أي صبغه بالصبغة الأفلاطونية التي تشبه مقاربات التنمية البشرية المشوهة لمفهومي السعادة والنجاح.

أما في مقالنا اليوم، فسنتحدث عن الألم باعتباره ضرورة إنسانية ملحة وقائمة، وباعتباره محركا للفعل الإنساني وما علاجه وكيفية التخلص منه.

تعد الكتابة عن موضوع شائك ومفصلي كهذا سلاحا ذا حدين، فالوعي المجتمعي تجاه كثير من الأشياء هو الذي يحدد صلاحيتها وجودا أو نفيا، والحديث عن الألم في المجتمعات العربية يوازي الحديث عن فضيحة أو عار لا يمحوه سوى التجلد المصطنع للمتألم، وهو ما يفسر فشل مراكز التأهيل النفسي والعلاج السلوكي في المجتمعات العربية. والحالة الإنسانية الدائمة صعودا وانحدارا ترتبط ارتباطا وثيقا بالألم باعتباره مؤشرا حيويا على الصحة العقلية والجسدية للفرد.

أغلب مصائب الإنسان تلك المرتبطة بالألم النفسي أكثر من الألم الجسدي. ولنعبّر عن الألم النفسي بمصطلح الحزن، وهنا نقتبس من كتاب تهذيب الأخلاق لمسكويه حيث يعرِّف الحزن بأنه «ألم نفساني يعرض لفقد محبوب أو فوت مطلوب». فأما فقد المحبوب إما بالهجران أو الوفاة، وأما فوت المطلوب فألا ننال ما نرجوه ونبتغيه ونتمناه. ثم يذكر أسباب هذا المرض النفساني ويلخصها في أمور منها «الحرص على القنيات الجسمانية والشره إلى الشهوات البدنية والحسرة على ما يفقده أو يفوته منها. وإنما يحزن ويجزع على فقد محبوباته وفوت مطلوباته من يظن أن ما يحصل له من محبوبات الدنيا يجوز أن يبقى ويثبت عنده أو أن جميع ما يطلبه من مفقوداتها لا بد أن يحصل له ويصير في ملكه»، وملخص كلامه هذا أن «السماح بالرحيل» لما كنا نملكه وكان في حوزتنا، والرضا بفقد ما نفقده باعتباره زائلا كزوال الكون نفسه، هو ما يجعلنا سعداء متحررين من شقاء هذا المرض النفساني. يستطرد مسكويه بأسلوبه الفريد ولفظه الأنيق، فيورد العلاج مباشرة بقوله: «فإذا أنصف نفسه -المحزون- وعلم أن جميع ما في عالم الكون والفساد غير ثابت ولا باق، وإنما الثابت الباقي هو ما يكون في عالم العقل؛ لم يطمع في المحال ولم يطلبه. وإذا لم يطمع فيه لم يحزن لفقد ما يهواه، ولا لفوت ما يتمناه في هذا العالم. وصرف سعيه إلى المطلوبات الضافية، واقتصر بهمته على طلب المحبوبات الباقية، وأعرض عما ليس في طبعه أن يثبت ويبقى. وإذا حصل له منه شيء بادر إلى وضعه في موضعه، وأخذ منه مقدار الحاجة إلى دفع الآلام التي أحصيناها من الجوع، والعُري، والضرورات التي تشبهها، وترك الادخار، والاستكثار، والتماس المباهاة والافتخار، ولم يحدّث نفسه بالمكاثرة بها والتمني لها. وإذا فارقته لم يأسف عليها ولم يبال بها. فإن من فعل ذلك؛ أَمِنَ فلم يجزع، وفَرِحَ فلم يحزن، وسَعِدَ فلم يَشْقَ. ومن لم يقبل هذه الوصية، ولمَّا يُعالج نفسه بهذا العلاج؛ لم يزل في جزع دائم وحزن غير منتقص».

معللا ذلك بأن المرء «لا يعدم في كل حال فوت مطلوب أو فقد محبوب وهذا لازم لعالمنا هذا لأنه عالم الكون والفساد. ومن طَمِعَ من الكائن الفاسد ألا يكون ولا يفسد، فقد طمع في المحال، فلم يزل خائبا والخائب أبدا محزون والمحزون شقي».

ختاما، أتذكر خبرا أورده الجاحظ في البيان والتبيين: « قالَ الباهِليُّ: قيلَ لأعْرابيٍّ: ما بالُ المَراثي ‌أجْوَدَ ‌أشْعارِكم؟ قالَ: لأنَّا نقولُ وأكْبادُنا تَحْتَرقُ».

لولا الألم؛ لما قرأنا أعذب القصائد في الموت والفراق والصبابة والحسرة، ولولاه، لما عرفنا أجمل الروائع الأدبية من قصة ورواية، ولا قرأنا كتب الفلسفة التي تفككه وتحلله بمشرط المنطق العقلي وترتقه بخيط الروح الأبدي موسيقى الفنانيين. ولولا الألم، لما كتبت هذا المقال!.