11 أغسطس 1998

16 مارس 2024
16 مارس 2024

حين حزمت حقائبي مغادرا صنعاء يوم الحادي عشر من أغسطس 1998م حملتها، واتّجهتُ صوب (مركز الدراسات والبحوث اليمني) لتوديع الدكتور عبد العزيز المقالح مدير المركز، وعندما أخبره الدكتور محمد الشرفي بوصولي، خرج من مكتبه مرحّبا، وأدخلني مكتبه، وقال لي: «إذن نويت الرحيل إلى سلطنة عُمان، هل ستطول رحلتك؟» أجبته، بكلمات مرتبكة تخرج من قلب يعصره الألم: نعم، فأنا متوجّه إلى مسقط للاستقرار، والعمل فيها، فقال: لا يوجد فرق، نحن وسلطنة عمان بيت واحد، والكثير من القبائل العمانية نزحت من اليمن، وأنت مرحّب بك، متى ما شئت العودة، وعقد عملك في صنعاء مستمر، وأمامك الوقت الكافي لدراسة الوضع، فنحن في إجازة الصيف، فإذا واجهتك أيّة صعوبة، تذكّر أنّنا نفتح ذراعينا لك سنكون بانتظارك» فشكرتُ لطفه الذي غمرني به طوال سنوات إقامتي باليمن التي تطرّقت إليها في كتابي (نقوش سومريّة على باب اليمن) الصادر عن دار عناوين في القاهرة 2022م، فقد كان يريد أن يطمئنني، بعاطفة وحنوّ أب، ألا أقلق، لأنني سأكون بين أصدقاء وأهل، فشكرته، ثم قام من الكرسي المجاور لي، وجلس على مكتبه، وكتب رسالة، وحين انتهى منها، وضعها في مغلّف وقال: هذه الرسالة للصديق الشاعر سيف الرحبي، حين تلتقي به أرجو أن تسلّمها له، فأخذتها منه، وعانقته مودّعا، وقبل أن أخرج قال: انتظر، سيوصلك للمطار سائقي بسيارتي الخاصة، وهذا ما كان، وحين خرجتُ من المركز وجدت سماء صنعاء ملبّدة بالغيوم، وبعد دقائق من انطلاق السيارة بي نزلت أمطار صيف صنعاء كعادتها بغزارة، مددتُ يدي من النافذة مصافحا المطر ومودّعا رسل سماء صنعاء، وفي منتصف الطريق، جرى ما لم يكن في الحسبان، فقد حصل حادث للسيارة التي تقلّني، فعندما عبرت السيّارة التقاطع بعد انطلاق الإشارة الخضراء، جاءت سيارة مسرعة، واصطدمتْ بها، ما هذه الفواصل التي تقتحمنا في الأوقات غير المناسبة تماما!؟ الحمد لله، كان الحادث بسيطا، ولكي لا أتأخر عن موعد الطائرة اكتريت سيارة أجرة مضت بي منطلقة، بسرعة قصوى، وكانت الأمطار تشتدّ، كنت أتساءل مع نفسي: لماذا كلّ هذا يحصل في وقت واحد!؟ المطر الغزير، الحادث الذي تعرّضت له سيّارة المقالح الذي أراد أن يقدّم لي خدمة، هل هي إشارات؟ يقول الشاعر:

مشيناها خطى كُتبتْ علينا

ومَن كُتبت عليه خطى مشاها

لكن سرعان ما بدّدتُ تلك الأفكار، فالمطر إشارة خير، والحوادث تحصل، في كلّ وقت، والطريق إلى مسقط أخضر، معبّد بالأماني، التي تورق عن فتح صفحة جديدة في دفتر الحياة.

حين وصلنا المطار وجدت صعوبة في النزول من السيارة بسبب غزارة سقوط المطر، فانتظرت حوالي عشر دقائق، حتى هدأت، فنزلتُ مسرعا، فوجدت الأصدقاء: الشاعر فضل خلف جبر، والدكتور عبدالجليل الولي والإعلامي اليمني خالد الحمادي، قد سبقوني للمطار، وقد قدموا لوداعي، فنقلوا لي تحيات د.حاتم الصكر الذي تابع معي هذه الخطوة، وشجّعني عليها، ولم يتمكن لظرف طارئ من مصاحبتهم، وكذلك الأصدقاء: د.عبدالرضا علي، والدكتور سعد التميمي، والراحل الدكتور عوني صبري، أمضيتُ معهم وقتا قصيرا، واستأذنت منهم، فأنا أتهرّب من مشاهد الوداع، ثمّ أنهيتُ الإجراءات، بسرعة، ودخلت قاعة المغادرين، كان وداع صنعاء صعبا، فقد كنت كطفل أقتلع من حضن أمّه، فمن طبيعتي التعلّق بالأمكنة التي أقيم فيها، ولكنّ ظروف الحياة، تملي علينا، وكنت بالوقت نفسه سعيدا بقرب وصولي مسقط التي قرأت وسمعت عنها الكثير، وبقيت كلمات الشاعر عبدالوهّاب البياتي ترنّ في أذني عندما التقيتُ به في (عمّان) عام1995 حين قال «لو عاد بي الزمن إلى الوراء لاخترت مسقط مكانا للإقامة، حيث الهدوء، والنظافة، والجمال، والتناسق العمراني، وطيبة الإنسان»

قطع حبل الذاكرة صوت التنبيه لفتح البوابة، فنهضت من مكاني، ومضيت باتجاه الطائرة المتجهة إلى دبي، حيث الترانزيت وبعدها إلى مسقط، ومن نافذة الطائرة لوّحت لصنعاء التي أمضيت فيها أربع سنوات سمان بالأنشطة، واللقاءات الثقافية، والصداقات، والكتابات والقراءات.

حين هبطت الطائرة في مطار مسقط الدولي، كانت ملابسي لم تزل مبلّلة بما علق بها من أمطار صنعاء، وجاءت الصدمة، عندما فُتحت البوابة الخارجية، فإذا بحرارة الجو الشديدة والرطوبة العالية، تهجمان عليّ، فكانت تلك أول مصافحة لي مع حرارة الصيف، تلك المصافحة أعادت إلى ذهني حرارة صيف العراق، لِمَ لا؟ ونحن لم نزل في عزّ الصيف وشهر (آب) حسب تسميات شهور الروم، يوصف بـ( اللّهّاب)!

اجتزتُ البوّابة، مسرعا، متفحّصا وجوه المستقبلين لاح لي وجه وجدتُ المرحومة عزّة الحارثية التي كانت في انتظاري برفقة اثنين من أفراد أسرتها، فشعرتُ بالطمأنينة، وزال التوتّر، بعد حوالي عشرين دقيقة، وصلنا مكان إقامتي الذي وجدته مهيئا، وكان في بوشر قرب فندق مجان، في اليوم التالي اتصلت بمكتب الصديق الشاعر سيف الرحبي فقيل لي أنه خارج سلطنة عمان، فاتّصلتُ بالصديق الشاعر ناصر العلوي فردّ عليّ، وفوجئ بوصولي مسقط، وجاء على الفور إلى محل إقامتي، وعرض عليّ أن نتجوّل في مسقط، وخيّرني في المكان الذي نتوجّه إليه، قلت له: أتمنى أن أحضر فعالية ثقافية، فقال: في الصيف تقلّ الأنشطة، لكن يوجد في الجمعية العمانية للفنون التشكيلية معرض، فرغبت في زيارته، لكي أطّلع على الحركة التشكيلية العمانية، وكان معرض (حروفيات)، ومن بين أسماء المشاركين الذين علقت لوحاتهم بذهني أعمال الفنان محمد الصائغ ومحمد فاضل الحسني، والفنان حسين عبيد، ومرّت الأيّام وإذا بالفنّان حسين عبيد يتّصل بي ليبلغني أن الفنان العراقي الكبير نوري الراوي في مسقط ويسأل عني، فذهبت إلى المكان الذي اجتمعا به وكان معهما الفنان الراحل موسى عمر، وبعد أن أمضينا وقتا جميلا دعاني الراوي إلى حضور معرضه، فرحّبت بالدعوة، وكنت من أوائل الحاضرين، في ذلك اليوم تعرّفت على الفنانة نادرة محمود التي كانت قد افتتحت معرضا بالوقت نفسه، مثلما تعرّفت على فنانين آخرين من بينهم: محمد الصائغ، ومحمد فاضل الحسني، والراحل أيّوب ملنج، وربطتني بهم صداقة وثيقة، كلّ ذلك جرى، ولم أكن قد التقيتُ بالشاعر سيف الرحبي الذي تعرّفت على نتاجه الشعري قبل أن يجمعني اللقاء الأوّل به في مهرجان المربد الشعري الذي أقيم ببغداد عام 1989 حيث قدّمني له الصديق الباحث والمترجم سعيد الغانمي الذي كان قد أعارني ديوانيه (رأس المسافر، ومدية واحدة لا تكفي)، أعقبه لقاء آخر في صيف عام 1994 م في (عمّان) خلال مشاركته في مهرجان جرش، وآخر في صنعاء 1996م.

وبدأت أندمج أكثر بالحياة الثقافيّة، فتعرّفت على القاص سالم الحميدي الذي عرّفني على النادي الثقافي والمنتدى الأدبي عندما كان مقرّه في السيب، ونادي سداب الذي شاهدت به مسرحية (النوخذة ) لفرقة مسرح الحر وكانت من تأليف: الدكتورة آمنة الربيع، وإخراج: جاسم البطاشي، وبعد العرض تعرّفت على الربيع والبطاشي، ومسرحيين آخرين.

في تلك الفترة واصلتُ عملي في الصحافة الثقافية مراسلا لعدد من المجلّات والصحف: (الزمان) اللندنيّة، و(الصدى) الإماراتية، و(الفينيق) الأردنيّة إلى جانب عملي في التدريس، والكتابة في الملحق الثقافي لجريدة (عُمان)، وهذا النشاط عرّفني على الوسط الثقافي، وجعلني قريبا منه، وتماهيت معه، حتى صرت جزءا منه، واليوم، بعد كلّ تلك السنين، لا أزال أحتفل بيوم الحادي عشر من أغسطس الذي مثّل لي نقلة في حياتي على المستوى الثقافي والاجتماعي والإنساني.

عبدالرزّاق الربيعي شاعر وكاتب مسرحي عماني