العرب والعالم

غزة تبحث عن مقاعدها الدراسية المفقودة تحت وطأة الحرب

25 ديسمبر 2025
عودة تعليمية على استحياء
25 ديسمبر 2025

منذ إعلان وقف إطلاق النار المؤقت، عاد مشهد الطلاب إلى الشوارع بشكل خافت ومتردد، كأن المدينة التي غمرها الركام تحاول استعادة أنفاسها عبر دفاتر مهترئة وحقائب فقدت ألوانها. فالعودة الجزئية للتعليم في مدارس وجامعات غزة ليست استئنافًا طبيعيًا للعام الدراسي، بل محاولة إنقاذ أخيرة، تتقدّم فوق أرض متهشّمة لا تزال تئن تحت وطأة حرب أنهكت البشر والحجر على السواء.

ورغم الدمار الشامل الذي طال البنية التعليمية، فإن الحركة البطيئة نحو الصفوف؛ سواء داخل مبانٍ نصف مهدّمة أو خيام نصبت على عجل، تحمل دلالة واحدة: أن التعليم في غزة يُستعاد اليوم بوصفه فعلًا للمقاومة أكثر منه إجراءً إداريًا.

مدارس مزدوجة

تجري العملية التعليمية في مدارس غزة اليوم وسط مشهد مربك؛ فالمكان ذاته يستضيف صباحًا دروس الطلبة، ومساءً عشرات العائلات النازحة التي لم تعد تملك سقفًا غير سقف المدرسة. إذ تضررت مئات المدارس كليًا أو جزئيًا، وتحولت عشرات منها إلى مراكز إيواء مكتظة، ما دفع وزارة التربية والتعليم إلى تقسيم المباني بين التدريس والمأوى، أو تشغيلها بنظام الفترتين.

وتفتقر العودة الراهنة إلى مقوّمات أساسية؛ فصول مكتظة تفوق قدرتها بأضعاف، مقاعد مكسورة، أبواب بلا مفاصل، نوافذ مهشّمة، وكتب دراسية غير مكتملة. أما البيئة المحيطة فتمتزج فيها روائح طهي النازحين، وبكاء الأطفال، وصفوف انتظار الماء والغذاء، مع أصوات المعلمين وهم يحاولون إتمام الحصة.

ويقول مدير عام العلاقات العامة والإعلام في وزارة التربية والتعليم، أحمد النجار، إن الحرب تعمّدت «استهداف العملية التعليمية بكل مكوناتها»، معتبرًا أن ما تقوم به الوزارة اليوم هو «محاولة للحدّ من الانقطاع الشامل للتعليم رغم الدمار والنزوح وانقطاع الموارد».

ويشرح النجار أن الوزارة تعمل وفق ثلاثة مسارات متوازية: تعليم وجاهي داخل المناطق الأكثر أمانًا سواء في غرف تقليدية أو خيام مؤقتة، تعليم مدمج يجمع الحضور المحدود والتواصل الإلكتروني، وتعليم عن بُعد عبر منصات «وايزسكول» و«تيمز»، في محاولة لتعويض الفجوة الهائلة التي خلّفتها الحرب.

كما يشير خلال حديثه لـ«عُمان» إلى أن خطط الطوارئ بعد الهدنة هدفت للعودة الوجاهية الكاملة، لكنها اصطدمت بتدمير المدارس ونقص المعلمين والأثاث والموارد الأساسية، ما اضطر الوزارة للتنسيق مع الحكم المحلي والبلديات ومؤسسات المجتمع المدني لإنشاء أماكن بديلة لإيواء النازحين تمهيدًا لإعادة المدارس لوظيفتها الأصلية.

لقد دفع العدوان نحو 674 ألف طالب خارج مقاعد الدراسة، واستشهد أكثر من 17 ألفًا و175 طالبًا، وأصيب 26 ألفًا و264 آخرون، بينما فقدت المنظومة التعليمية 928 معلمًا وإداريًا واستُهدف آلاف آخرون، في حين دُمّرت 144 مدرسة كليًا وتضررت 165 أخرى جزئيًا، بحسب إحصاءات وزارة التربية والتعليم.

عودة هشّة

رغم الجهود، يتفق التربويون على أن ما يحدث «عودة رمزية لا أكثر»، وأن استمرارها مرهون بإعادة الإعمار وتوفير البيئة الآمنة والدعم الدولي. فالتعليم اليوم يجري داخل بيئة مضطربة، تتشابك فيها أزمة النزوح مع انعدام الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه، ما يجعل اليوم الدراسي أقرب إلى محاولة «إبقاء شعلة الأمل» أكثر من كونه عملية تعليمية مكتملة.

في مدرسة الكمالية الأثرية في حي الزيتون بمدينة غزة، يقف مديرها الأستاذ أحمد السوافيري أمام تحديات جمة لإعادة إحياء التعليم. يقول لـ«عُمان»: «العودة كانت شديدة الصعوبة. المدرسة كانت مهجورة لعقود وتحتاج لجهود كبيرة لتكون بيئة صالحة للتعليم».

ويضيف: «نعمل على تنظيف المدرسة وإصلاح ما يمكن إصلاحه بشكل طوعي وبأدوات بسيطة، فبعض الجدران آيلة للسقوط، ونواجه نقصًا حادًا في المقاعد والمستلزمات الأساسية، لكن الطلاب يتوافدون بحماس لطلب العلم رغم هذه الظروف القاسية».

وأعيد افتتاح المدرسة الكمالية الأثرية بحي الزيتون في غزة، مطلع شهر نوفمبر 2025، بعد توقف دام لعقود طويلة. جاءت هذه المبادرة الطوعية بقيادة المدير الأستاذ أحمد السوافيري ومعلمين نازحين آخرين، حيث قاموا بتنظيف وترميم المبنى الأيوبي العثماني القديم بأدوات بسيطة وإمكانيات محدودة.

يوضح مدير المدرسة الكمالية: «تحول هذا الصرح التاريخي، الذي كان مهجورًا منذ السبعينيات، إلى مساحة تعليمية مؤقتة احتضنت مئات الطلاب من مختلف المراحل الدراسية الذين فقدوا مدارسهم المدمرة في الحرب، ليجلسوا على الأرض أحياناً بدلاً من المقاعد، في محاولة لانتشال جيل كامل من براثن الجهل وإعادة الأمل إلى قلوب الأطفال».

طلاب تائهون

في الصف الأول الثانوي بمدرسة مريم فرحات الثانوية، التي تأوي نازحين، يجلس الطالب رامي أبو خاطر فوق مقعد بلا ظهر، يضغط كتابه على ركبته ليحافظ على ثباته وسط ضوضاء المكان. يقول: «نأتي يوميًا إلى المدرسة لكننا لا نجد بيئة تساعد على التركيز. العائلات النازحة تشاركنا الفصول. أصوات المياه التي تُنقل في الجرادل، صراخ الأطفال، محاولات النساء للطهي... كل ذلك يحدث بينما نحاول فهم درس الرياضيات».

ويضيف لـ«عُمان»: «حتى الحصة الواحدة أصبحت مرهقة. نصف الوقت يضيع في محاولة إيجاد أماكن للجلوس، أو انتظار توقف الضوضاء. ومع ذلك، نشعر أن وجودنا هنا مهم لكي تبقى الحياة مستمرة، لكي لا نُهزم نفسيًا أمام مشاهد الدمار».

ويوضح: «أكبر تحدٍّ بالنسبة لنا هو غياب الشعور بالأمان. كل صوت قوي يذكرنا بالقصف، وكل اهتزاز في الجدار يجعلنا نظن أن شيئًا سينهار. نحن ندرس تحت الخوف، وهذا وحده كافٍ لشلّ العقل».

ضجيج دائم

في مدرسة «الأمل» شمال القطاع، تقول الطالبة ليان بركات: «نبدأ يومنا مبكرًا لأن الفصول قد تُغلق في أي لحظة لاستخدامها في توزيع الطعام. خلال الحصة قد نوقف الدرس لأن إحدى العائلات تحتاج إلى مساحة إضافية داخل الفصل المجاور».

وتتابع لـ«عُمان»: «نحاول التأقلم رغم كل شيء. نعلم أن النازحين لم يختاروا هذه الظروف. لكننا في الوقت نفسه نفقد القدرة على التركيز، ونشعر أن التعليم يسير فوق أرض رخوة».

وتختم: «ثلاثة أيام في الأسبوع فقط نستطيع حضور الحصص، وحتى هذه الأيام لا تمر بسلاسة. نعيش تعليمًا متقطعًا، ونعتمد على المدرسين لتزويدنا بما يمكن إنقاذه من المنهاج».

صفوف مكتظة

المدرس نادر السالمي يشرح واقعًا أكثر صعوبة: «أدخل إلى الفصل فأجد أكثر من خمسين طالبًا في مساحة لا تتسع لثلاثين. بعض الطلاب يجلسون على الأرض، وآخرون يظلون واقفين طوال الحصة. أما خارج الغرفة فهناك دخان النيران التي يشعلها النازحون للطبخ».

ويقول السالمي: «نحن نحاول أن نجعل التعليم ممكنًا وسط هذا الركام. المشكلة ليست في إيصال المعلومة، بل في بيئة لا تُشجع على التعلّم. أصوات البكاء، طوابير المساعدات، مشاهد التعب... كلها تتسرّب إلى الدرس».

ويوضح لـ«عُمان»: «الحل الوحيد هو إخلاء المدارس من النازحين وإعادة إعمارها. غير ذلك، سنظل ندور في حلقة مؤقتة لا تصلح لجيل كامل».

نازحون مجبرون

النازح خالد ربيع يرفض تحميل العائلات مسؤولية تعطّل التعليم: «لم نختر المدارس مأوى لنا. الحرب دفعتنا إليها بعدما فقدنا منازلنا. نحن ندرك قدسية التعليم، لكن أين نذهب؟ لا توجد أماكن بديلة».

ويضيف لـ«عُمان»: «نحاول بقدر استطاعتنا ألا نعيق سير الدروس، لكن الظروف أقوى من الجميع. الحل ليس بإخراج النازحين، بل بتوفير مأوى بديل لهم».

من جهته، يؤكد محمد حمدان، مدير التربية والتعليم في المحافظة الوسطى، أن «إخلاء المدارس من النازحين مستحيل حاليًا». ويوضح أن الوزارة تعتمد نظام الفترات الزمنية والتعليم عن بعد وتخصيص صفوف افتراضية لتخفيف الضغط إلى حين توفر بيئة مناسبة.

جامعات تستيقظ

على الطرف الآخر من المشهد، بدأ التعليم العالي يستعيد نفسه تدريجيًا. فقد أعلنت الجامعة الإسلامية في غزة مطلع ديسمبر عن استئناف التعليم الوجاهي في بعض مبانيها، رغم أن العدوان دمّر معظم منشآتها. وقد وصفت الأمم المتحدة هذا الدمار بأنه «إبادة تعليمية».

يقول رئيس الجامعة أسعد يوسف لـ«عُمان»: «التعليم يعود أولاً لكي يكون باكورة عودة الحياة إلى قطاع غزة. برغم كل المآسي وكل القسوة من حرب الإبادة التي حدثت، إلا أن الفلسطيني كما هو دائمًا يحب الحياة ويحب التعليم».

ويُبين: «عودة التعليم ليست مجرد قرار أكاديمي، بل إعلان بأن غزة قادرة على النهوض رغم كل شيء. بدأنا بطلاب الطب والعلوم الصحية، ضمن خطة تدريجية تتوافق مع رؤية وزارة التعليم العالي».

زحام ونُدرة

ولكن العودة الجامعية تبدو محمولة على عناء إضافي هذه المرة؛ فالقاعات الضيقة التي نجا بعضها بالكاد، تحشر عشرات الطلبة في مساحات لا تتّسع لهم، فيما تتناثر حولهم أدوات قليلة بالكاد تكفي لإجراء الدروس الأساسية. وبين الازدحام ونقص المعدات، يصبح مجرد الجلوس على مقعدٍ واحد فعلًا يستحق الاحتفاء.

الطالبة نور عوض (سنة ثالثة طب) تقول: «عدنا للتعليم الحضوري بعد غياب عامين. القاعات ضيقة بسبب الدمار، والازدحام كبير، لكن مجرد دخول الجامعة من جديد يشبه عودة الروح».

وتضيف لـ«عُمان»: «المباني التي صمدت جرى ترميم الحد الأدنى منها. نتشارك معدات قليلة، ونمضي بين الركام للوصول إلى المحاضرات. لكننا نعتبر ذلك خطوة أولى نحو التعافي».

وتختم: «نأمل أن تعود بقية الكليات قريبًا. العودة لمقاعد الدراسة تمنحنا إحساسًا أننا ننتصر على الخراب».

أما الطالب محمود السوسي (سنة ثانية علوم صحية) يؤكد أن «التحديات كانت هائلة. كنا ندرس بين البحث عن مياه للشرب وحاجتنا للخروج لمسافات طويلة لملئها. الجو النفسي كان قاتلًا».

ويضيف لـ«عُمان»: «مع الهدنة، حتى لو كانت هشة، استطعنا العودة للمحاضرات. بعض الدروس تجري بلا معدات كاملة، لكن المهم أننا هنا نحاول الاستمرار».

ويوضح: «نعيش مرحلة انتقالية، ونحتاج دعمًا كبيرًا لإكمال العام الجامعي، لكن الحضور وجاهيًا يعيد لنا الاستقرار».

فيما تقول الطالبة سارة خفاجي (سنة رابعة طب): «جامعتنا استطاعت أن تقف على قدميها بعد دمار قاسٍ. العودة هنا ليست مجرد تعليم، بل رسالة بأننا سنعيد إعمار غزة».

وتضيف لـ«عُمان»: «ندرس بين مبانٍ متصدعة، ونمشي وسط طرق لا تزال تحمل آثار القصف، لكننا نؤمن أن هذه البداية ستكون أقوى مما نتخيل». وتختم: «التعليم سيبقى عنوان بقاءنا».