No Image
عمان الثقافي

من سينما (سيح المالح) إلى صالة سينما في القاهرة

24 ديسمبر 2025
24 ديسمبر 2025

سيف الرحبي -

ذهبت من عُمان إلى القاهرة ولم أكن أعرف السينما أو شاهدتها ولا التلفزيون، أي الصورة على الشاشة بحركتها وحيواتها كانت جديدة عليّ عدا ذكرى يتيمة خاطفة حين ذهبت مع قرين طفولة أو اثنين لاهثين فوق التلال والهضاب إلى منطقة (سيح المالح)، حيث البحر، وحيث تتمركز شركة (بي دي أو) النفطية. كان الساكنة من الأغلبية الإنجليزية آنذاك وأوروبيين آخرين، حتى أشرفنا على منحدر في آخره -أي في القاع- صالة بكراسي وبشر حمر وشقر يحدقون صامتين في شاشة كبيرة تعرض فيلما... وقفنا بذهول في الأعلى مركزين النظر بنشوة واستغراب إلى شريط هذه الصور المتلاحقة المتدافعة بشخصياتها وأجوائها، لكن الفرحة لم تكتمل بهذا الاكتشاف الذي وهبته الصدفة لأطفال لم يكن يعرفون من ألعاب الطفولة إلا الركض في البراري والمقابر والجبال وصيد الطيور أحيانا. لم تكتمل فرحة الاكتشاف إذ لاحظ أحدهم من الأسفل وهو على ما يبدو أحد حراس المكان، الذي انبرى إلى طردنا بزمجرة وعنف فولّينا راكضين في طريق العودة الطويلة بالأرجل الحافية التي اعتادت التعامل مع شظف العيش والمكان.

كان أول فيلم شاهدته في صالة السينما بالقاهرة في سينما، هي سينما كانت لصق مسرح (البلون) أو داخله -لا أذكر على وجه الدقة-، كان ذلك الذهول والانتشاء المقطوع في عُمان يتواصل هنا بشكل أعمق حتى آخر الفيلم الذي انتفضت لأحداثه وشخصياته ومناخاته المختلفة الوجدانات والعواطف سواء أمام اشتباكات مشاهد العنف أو تلك القبل بين البطلين غالبا؛ حيث تجرفنا مياه اللذة إلى شواطئ بعيدة في الفضاء الغائم البعيد. وحين نخرج مترنحين من صالة السينما يبدأ بعد فترة من استرداد الوعي والسوية المهتزة نقاش حول التمثيل والواقع مع بداية وعينا لأبجديات الثقافة والفن. تكلمنا من أن الضرب الدموي والعنف ليس حقيقيا في السينما بل تمثيلا رغم أننا عايشناه كواقع وحدث يجري بحيوية الواقع وتأثيره. سنظل في غمرة هذا التشوش وعدم الوضوح فترة من الزمن. أحد الصبية قال إن الضرب والاشتباك العنيف على الشاشة تمثيل إلا في الأفلام الأمريكية فهو حدث واقعي وحقيقي حتى لو سالت دماء وخلّف جرحى وقتلى فهو حقيقي في الأفلام الأمريكية دون غيرها وفق رأيه المتعصب مثل الذي شاهدناه لأول مرة آنذاك.

بعد حدث المشاهدة التأسيسي هذا اكتشفنا سينما (سيفينكس) أو أنها فتحت في تلك الفترة مطلع السبعينيات في شارع جامعة الدول العربية قريبا من نادي الزمالك. وكان مسرح (البلون) يقع بعدها جهة اليمين في الضفة الأخرى وفيه أيضا شاهدنا لأول مرة عالم السيرك المدهش. ذلك العالم السحري الذي استلهم من فضاءاته ومغامراته ومهرجيه (فريدريكو فيلليني) عوالمه السينمائية الأكثر سحرا ودلالة والتي لا يطويها الزمن والنسيان من ذاكرة محبي السينما والمعرفة.

بعد رحلة السنين في القاهرة ومصر وكنت على مشارف الرحيل منها ربما نحو الشام؛ إذ إن بيروت مربط الحنين الإبداعي والمغامرة كانت تستعر فيها الحروب الأهلية بتلك الفترة الانتقالية من حياتي المضطربة في كل نواحيها -وفي مقدمتها الأمنية- أيما اضطراب. كنت في الإسكندرية وكانت هناك دور للسينما بتلك الشوارع والعمارات والأزقة والمقاهي أي في المركز، مقهى (الإيليت) وغيره والمحال التجارية والمطاعم التي تذكر بتلك الحقبة المضيئة التي كانت فيها الإسكندرية الكوزموبوليتية كما تعبر ثلاثية (داريل) الروائية. مركز المدينة التاريخية الشهيرة من محطة الرمل صعودا إلى قلب وسط البلد ثمة دار سينما كانت تعرض فيلما جديدا بعنوان (جوليا) بطولة (جين فوندا وفينيسيا ريدجريف) التي صارت تأتي إلى دمشق لاحقا لمهرجانات سينمائية وتكريمات فلسطينية بسبب نصرتها للقضية الفلسطينية العادلة. وكنا نراها بقامتها الطويلة المفعمة بالتألق والحيوية وكانت (فوندا) في هذا السياق نفسه من الاستنارة تجاه مناصرة قضايا الشعوب المحقة لكنني لم أرها في أي بلد عربي أو مناسبة. كان الفيلم يسرد قصة صديقتين أثناء الحرب العالمية الثانية تفرقهما الأحداث الدموية العاصفة وتظلان على علاقة متينة وحنين ورؤية مشتركة تجاه الحرب رغم اختلاف تكوين الشخصيتين بين مغامرة مقدامة وأخرى مترددة خائفة... وأتذكر أنني كتبت مقالا مسهبا عن الفيلم لكنني لم أنشره رغم أني نشرت مقالات كثيرة حول أفلام بعينها. لقد ضاع مثل غيره الكثير في خضم الترحال بسياق الشتات في الأمكنة المختلفة. وفي الفترة نفسها في سينما أخرى في مركز الإسكندرية عرضت فيلما بعنوان (آخر الطغاة) وفق الترجمة العربية أو آخر العظماء للمخرج الكبير (إليا كازان) بطولة (روبرت دينيرو)... وكيف يكون الصعود والاستواء النجومي اللامع في القمة بالنسبة لهوليود (وربما العالم) ثم النزول والسقوط والاندثار، مشهد دينيرو وهو يلعب التنس ويهذي بكلمات برهة شعوره بالانهيار أو بدايته كان يقول (أفتقدكم، أفتقدكم، أفتقدكم) معبرة حد الرعب ثم الدخول في ظلمة الغياب والعدم الساحق.

إيليا كازان الأمريكي ذي الأصول الأرمينية هو من اكتشف أسطورة السينما مارلون براندو في فيلم (عربة اسمها اللذة) عن مسرحية لتينيسي وليامز.

من مركز الإسكندرية وفي مقهى (الإيليت) هناك تشاهد (كفافيس) فصورته معلقة في جدار المقهى مع مقاطع من شعره ثم هناك إدوار الخراط (بنات إسكندرية) وإبراهيم عبدالمجيد (لا أحد ينام في الإسكندرية) ويوسف شاهين (الإسكندرية كمان وكمان) وهناك أيضا نجيب محفوظ الذي استهل روايته (ميرامار) بهذا المقطع الذي ما زلت أحفظه غيبا منذ تلك الفترة التي يفصلني عنها أرخبيل سنين ضوئي على طريقة ذاكرة الطفولة ونقشها الحجري:

الإسكندرية قطر الندى

مهبط الشعاع المغسول بماء السماء

نفثة السحابة البيضاء

والمنظر المضمخ بالشهد والدموع

***

حين عرض فيلم (الأب الروحي) في جزئه الأول شاهدناه مجموعة طلبة وطالبات في القاهرة، كان شعورنا نحوه محايدا، فيلم إثارة وعصابات وطغيان شخصية (مارلون براندو) على مناخ الفيلم وشخصياته وبما أنني بدأت أقرأ الصحافة اليومية، الأسبوعية والدورية حتى وصلت إلى قراءة مجلة (الطليعة) التي كان يرأس تحريرها لطفي الخولي. إرهاصات فكرية وبداية استجلاء طريق فكري بالغ الالتباس بأسئلته الكثيرة وأجوبته الشحيحة لكن المرحلة تفيض باليقين الأيديولوجي وتتضمنه حسما وأفق حقيقة بالغ السطوع جهة اليسار والماركسية اللينينية ولا أقل منها إلا الانحراف عن النهج الصحيح الذي يتبناه (التحريفيون) المرتبكون الحائرون وطبعا عملاء الإمبريالية العالمية التي تقودها أمريكا رأس الأفعى الكونية وفق تعبير للزعيم الفلسطيني جورج حبش مقابل حقيقة العدالة الاشتراكية والشيوعية بنشيدها الأممي وبيانها الجامع المانع التي تجسدها المنظومة الاشتراكية وطليعتها الاتحاد السوفييتي.

لاحظت أن أفلاما والصحافة المنتمية إلى المعسكر الثاني تهاجم فيلم (العراب) كونه لا يعمل أو يقدم إلا تلميعا لعالم المافيات بشخصياته وقيمه، بينما الواجب الإدانة قطعا في سبيل الإعلاء من القيم الاشتراكية والسلام والمساواة. وحين طرحت الرأي على بعض أقراني أجابتني زميلة عمانية كانت تدرس في مجال الطب ولا تقدم نفسها مثقفة بالمعنى السائد، بأن عرض العنف والقتل والخيانات على هذا النحو هو في حد ذاته إدانة ضمنية. أجبتها: لا يكفي، لا بد من وضوح فكري وعلى الشاكلة نفسها حين عرض في سينما قصر النيل فيلم الدكتور (زيفاجو) الذي أدى فيه دور البطولة (عمر الشريف) مع (جولي كريستي). وأخرجه الإنجليزي الملحمي (ديفيد لين) عن رواية النوبلي الروسي الشاعر (باسترناك) استقبله أصحاب المزاج اليساري بسلبية مطلقة؛ كونه يحتقر الرفيقة المرأة ويهاجم الخطاب السوفييتي الاشتراكي. وهاجمته أقلام كتاب اليسار المصري بضراوة أكثر من هجومها على العراب أو الأب الروحي. ولاحقا أدركت أن هجوم تلك الأقلام على عراب فرانسيس كوبولا جهة تلميع رجال المافيات له بعض الوجاهة وإنْ من زاوية أخرى حين شاهدت أفلام زميله الأكثر غزارة (مارتن سكورسيزي) حين تناول تاريخ المافيا ووقائعه بصورة أكثر تاريخية وواقعية ومن خلال معايشته لأفراد من عائلته ذات الأصول الإيطالية ومعظم السينما الأمريكية الهامة تحدرت من أصول إيطالية إخراجا وتمثيلا ومناحي فنية أخرى. وأردف سكورسيزي أكبر سينمائي حي معاصر أو من أكبرهم أن (عراب كوبولا) وهو ينتمي أيضا إلى أصول إيطالية بأجزائه الثلاثة أقرب إلى الأفلام المغلفة بغلالة رومانسية رغم فنيتها العالية وبعيدة عن الوقائع الحقيقية للمافيات والعصابات. (جمعية الفيلم) وفي مقدمتهم الأكثر نشاطا (سامي السلموني) رغم منحاهم اليساري الذي يطبع المرحلة بكاملها والاختلاف لم تحاكم الأفلام التي تعرضها وهي أفلام طليعية وعبر نشرتها محاكمة إيديولوجية صارمة وتلك المتحدرة من جذور دوغمائية مدرسة الواقعية الاشتراكية.

كان بين الطلبة ثمة هيئة تدعى كونفيدرالية الخليج والجزيرة العربية ضامة بعض دول الخليج العربي التي شكلت كيانات طلابية وتدخل ضمنها اليمن بجزئيها الجنوبي والشمالي، انحلت تقريبا هذه الهيئة التنسيقية ولكن بقي التنسيق والتعاون مثل تلك الرحلة الطلابية المدعومة والتي يممت هذه المرة نحو إسبانيا. كان الطابع العُماني يغلب على الرحلة، وصلنا إسبانيا ونحن نتجول في مركز العاصمة مدريد، لمحت بوسترات معلقة حول فيلم جديد بدأ يعرض في العواصم الأوروبية وأثار ضجة إعلامية في الأوساط النقدية السينمائية والجماهيرية هو (التانجو الأخير في باريس) وكنت قد قرأت في القاهرة عن هذا الفيلم الصادم والمفتوح على احتمالات التأويل والدلالات وأظن حتى نشرة جمعية الفيلم (تطرقت إليه بمقال مترجم وإن لم تعرضه) في حدود علمي. الفيلم بتوقيع المخرج الإيطالي والشاعر (برناردو برتلوتشي) وهو ربما آخر سلسلة الكبار في مدرسة السينما الإيطالية العظيمة التي شكلت الانعطافة الأكبر إيطاليا وعالميا (منذ فيتوريو دي سيكا، إلى فيللني، وانطونيوني، بازوليني، فيسكونتي... إلخ).

تحدثت مع بعض الطلاب والطالبات كلهم في الأطوار الجامعية حول الفيلم وأهميته والسجال العالمي الذي يثيره، رحبت مجموعة بمشاهدة الفيلم الذي يمثله أيضا مارلون براندو وهو في عقده الخامس و(ماريا شنايدر) -صبية فرنسية في مطلع العشرينيات من عمرها- في أول أدوارها أمام عملقة براندو وربما آخرها أيضا. حين بدأت اللقطات الأولى من الفيلم تتجلى عن ذلك الوضع الجنسي بعريه الساطع ساد القاعة صمت مريب متحفز، بعد دقائق بدأ الطلاب والطالبات في الانسحاب من القاعة. أما مجموعة صغيرة فواصلنا مسار الفيلم بغموضه المدهش مأسورين هكذا من غير أن نفهم إلا النزر القليل منه وخاصة مع غياب الترجمة العربية التي تعودنا عليها في القاهرة. وكنت أتذكر وأستعيد بعض المقالات التي قرأتها حوله، ترجمة أو مقالات نقاد مصريين أو عرب مثل رؤوف توفيق وعدنان مدانات. لأستطيع التقاط خيط ما في مسار السرد الذي يجانب الحبكة التقليدية والخطية للأحداث. رؤوف توفيق رأى أن برتلوتشي أراد أن يجسد أزمة ذلك الجيل الأوروبي الذي وقف عاجزا أمام صعود الرأسماليات المتوحشة وآلة الحروب فارتطم بحائط التاريخ ارتطاما أدى إلى الإحباط واليـأس والانتحار. (براندو) آخر الفيلم يطلق على نفسه النار في صالة شقته ويمشي مترنحا مضرجا حتى يصل إلى الشرفة ويسقط جثة وحيدة في فضاء المدينة الموحش.

الفيلم بالغ الثراء والسحر في الأسلوب والشكل الحلمي الهذياني الذي يغلب عليه اللون الأصفر كأنما المخرج يرمي إلى قذف شخصياته خارج الزمان والمكان. أرواح تائهة ممزقة تمضي مسرعة نحو حتفها بعد أن جردها اليأس من أي سلاح للمواجهة. شاهدت الفيلم بعد ذلك بوضوح ووعي أفضل. لاحقا جاءني ما يشبه الاحتجاج من منظمي الرحلة عبر شكوى لبعض الزميلات بأني ورطتهم بدخول فيلم فضائحي لا أخلاقي (خدش حياءَهنّ). والحقيقة ما كنت أعرف عن جانبه الإباحي ذلك الذي أوصل الشكوى حد استجوابي بشكل شبه بوليسي. أما ناحية المشاهد الجنسية فأمر طبيعي في الأفلام الأوروبية خاصة والأفلام الكبيرة إذا كانت هذه المشاهد ضمن سياق مقنع دراميا وفكريا وليس قصد إثارة في حد ذاته تلك التي تحفل بها السينما التجارية.

بعد عقود وعقود كنت مع صموئيل شمعون في مقهى (دونتون) بباريس حين رأينا ماري شنايدر وقد انهارت نضارتها الآسرة وصحتها؛ أصبحت مسنة متداعية بتجاعيد مخيفة تفصح عن إدمانها -وفق ما تقوله الصحافة ويقوله الوجه والجسد-. هل كان (التانجو) فيلمها الوحيد أم قامت بدور في فيلم آخر؟ لقد حطمها برتلوتشي من غير قصد وكذلك فعل براندو بصبية في مطلع العمر تحمل ذلك الجمال والفتنة قذفا بها إلى هذا المصير الصعب. ومن المقهى نفسه كنا نرى (مارتشيلو ماستورياني) وقد آل الزمان والمرض بالنجم الشهير المفضل لدى (فيلليني) خاصة، إلى الجلوس في كرسي متحرك في الحي اللاتيني، حيث تسكن زوجته الأيقونة الفرنسية (كاترين دنوف) التي كانت له ابنة منها.

سيف الرحبي شاعر عُماني