تجسير العلاقة بين المجتمع والسياسات العامة
06 ديسمبر 2025
06 ديسمبر 2025
تشكل ثلاثية (التواصل الجيد، الوضوح، الرغبة في التبني) بالنسبة للسياسات العامة عنصرًا مهمًا في أساسيات نجاحها وتأثيرها في المجتمع أو القطاع الذي تتوجه إليه؛ فالتواصل الجيد والقدرة على حشد اهتمام مجتمعي وبطريقة منهجية ومنظمة بسياسة معينة أولى عتبات نجاح وتأثير تلك السياسة (سواء كانت قرارًا معينًا، أو قانونًا جديدًا، أو خطة استراتيجية جديدة، أو اتجاهًا جديدًا تعلن عنه الحكومة، أو إجراءات تتبناها). كما أن وضوح مقاصد السياسة (لماذا استحدثت؟ ماذا تخدم؟ كيف ستؤثر على المجتمع؟ وكيف سيتكيف المجتمع معها؟) عتبة لا تقل أهمية وتتكامل في الآن ذاته مع أدوات التواصل الجيد، وفي المقابل فإن تكلفة عدم الوضوح قد تعني بالضرورة وجود المقاومة لفكرة تلك السياسة، أو تباين السرديات حولها، أو تشكل بيئة خصبة لنشوء الشائعات إزاءها، أو عدم القدرة على القبض على تفاصيل تفسيراتها.
أما الرغبة في التبني وقدرة المجتمع على استيعاب مقاصد ومسوغات السياسة، والامتثال لها، والتماهي مع إجراءاتها وأهدافها فهي المؤشر النهائي لنجاح عملية الاتصال بشأن السياسات العامة عمومًا.
وتصميم هذه المنظومة لم يعد اليوم عملًا أو إجراءً اتصاليًا روتينيًا من الممكن أن تؤديه أقسام الإعلام والتواصل في المؤسسات؛ بل أصبح صناعة تستوجب ـ مثلما تطرقنا في مقالات عديدة سابقة ـ إدخال المنظورات النفسية والسلوكية وأبعاد التفكير التصميم والصناعة الإبداعية جنبًا إلى جنب مع أسس ومهارات الاتصال والإعلام.
ما يحدث في المنطقة من نمط اتصالي حول السياسات العامة يمكن تلخيصه في وجهين أساسيين: سباق على تسويق (سردية وطنية)، وسباق على (خلق الزخم التنموي)، ولقد تعرضنا في مقالة سابقة إلى أهمية صناعة الزخم التنموي للسياسات والمشروعات الوطنية؛ ذلك أن أهمية هذا الجانب لا تتعلق فقط بالإخبار حول تلك السياسات والمشروعات؛ بل في ضرورة أن تكون لنا سرديتنا الوطنية التي يستطيع من خلالها الأفراد في المجتمع التحفز والتبني والدعم لكافة تلك السياسات والمشروعات، خاصة في منطقة تحتدم بالرغبة في الإبهار، وخلق النماذج وتصدير السرديات وبناء صورة العلامة الوطنية القادرة على تجاوز الحدود والأقاليم بأحمالها المعنوية والمادية، وبصورها النموذجية.
في سياقنا المحلي، تعززت في السنوات الأخيرة منظومة الاتصال بشأن السياسات العامة، حيث ظهرت العديد من الممارسات الاتصالية الجيدة التي ساعدت بطريقة أو بأخرى في وضع المجتمع في قلب التوجهات الحكومية، إضافة إلى تكثيف الوعي بشأن الاتجاهات والقرارات والإجراءات التي تتخذها المؤسسات الحكومية بشكل مرحلي؛ ومن بين تلك الممارسات ملتقى معًا نتقدم، بوصفه منصة وطنية سنوية للتعريف بالتوجهات والإنجازات الحكومية، إضافة إلى المؤتمرات الإعلامية للوحدات والمؤسسات الحكومية، عوضًا عن تحسن منظومة النشر والإعلام والتواصل لبعض المؤسسات عبر منصاتها وأحداثها المختلفة.
ومع هذا التحسن تبقى هناك بعض التحديات التي يمكن تلافيها عبر تطوير منظومة الاتصال بشأن السياسات الحكومية، ومنها دورية هذا الاتصال؛ صحيح أن هناك تقويما شهريا بالأحداث الحكومية والوطنية بما فيها اللقاءات الإعلامية للمؤسسات؛ إلا أن طريقة التوزع ودوريته ومواعيده لا تتبع نمطًا زمنيًا محددًا وواضحًا (مركزيًا)، وهو ما قد يخلق لدى المتلقي (المجتمع والأفراد ومجتمع السياسة العامة) نوعًا من التشتت بين كل تلك الأحداث الاتصالية.
الأمر الآخر، لا زالت هناك مساحات رمادية تنشأ خاصة فيما يتعلق بالسياسات العامة التي لا يتم التهيئة لها بشكل جيد، أو تلك التي تكون طريقة التهيئة لها غير مركزة أو موحدة أو محكمة، مما لا زال يخلق مساحة للتفسيرات العشوائية إزاء بعض القرارات أو التوجهات أو الإجراءات؛ وعلى الرغم من مسارعة الجهات بالتوضيح والإبانة، إلا أن سرعة ومدى انتشار تلك التفسيرات وشبكة انتشارها المجتمعي تصبح في بعض الأحيان أوسع من أثر التوضيحات اللاحقة أو الإبانات الرسمية.
في هذا السياق نقترح وجود لقاء إعلامي شهري (وطني)، الهدف منه استعراض أهم وأبرز (السياسات ـ الخطط ـ البرامج ـ الإجراءات ـ القرارات ـ القوانين ـ التحديثات ـ المؤشرات ـ المشروعات ـ الإنجازات) الجديدة التي تحدث خلال شهر كامل، يمكن لهذا اللقاء أن يختار عينة من (3 - 4) مؤسسات/ قطاعات حدثت فيها خلال الشهر أعمال تستدعي مزيدًا من التواصل مع المجتمع، أو الإيضاح بشأن تفاصيلها، أو الإعلام بشأن ما أُنجز فيها، بحيث تكون تلك المؤسسات محور اللقاء. وفي بداية اللقاء يمكن للمؤسسة المعنية بالتواصل الحكومي تحديد أهم التساؤلات والاستفسارات والقضايا التي طرحها المجتمع أو تداولها أو تساءل عنها خلال شهر كامل في مختلف القطاعات والمجالات، بحيث تكون هناك إيضاحات موجزة ومباشرة عنها.
كما يمكن للمؤسسات التي تكون محور اللقاء أن تعطي تحديثًا بشأن التقدم في أبرز مشروعاتها ومبادراتها التي تمس المجتمع.
كما يمكن إفراد مساحة لمشروعات وإنجازات الشركات الحكومية ومؤسسات القطاع الخاص ومساهماتها الوطنية خلال فترة الشهر المحدد؛ على أن تكون هناك مؤسسات أخرى حسب طبيعة الجدولة والمنجز في الشهر التالي.
في الجانب المقابل هناك ضرورة لتحديث أدوات السرد الوطني؛ فبقدر ما أن لغة الأرقام والمؤشرات مهمة وضرورية وحاسمة، فإن القصص والأحداث المعاينة والتجارب الحية قد تكون أكثر تأثيرًا في الرغبة في التبني والانسجام المجتمعي المطلوب مع السياسات العامة.
إن مثل هذه الخطوة في تقديرنا قد تفيد في تحقيق ثلاثة مكاسب بالنسبة لمنظومة الاتصال بشأن السياسات العامة؛ أولها: تقليل إمكانية نشوء (مساحات رمادية) للتفسير والشائعة وعدم الوضوح بشأن السياسات العامة، وثانيها: إكساب تلك السياسات الزخم اللازم لها عبر ربطها بمقاصد وطنية أو الحاجة لحل تحديات وطنية قائمة ومباشرة، وثالثها: جعل المجتمع وأفراده ضمن حركة تلك السياسات ومتصلين ومحدثين معلوماتهم وأفكارهم ورؤاهم وما يعرفونه عنها بشكل مستمر، وليس بشكل موسمي ومتباعد.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع، والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان
