مكان شفاء النفوس
01 أكتوبر 2025
01 أكتوبر 2025
الكتب غذاء روحي، تتجلّى به الأرواح، وتسمو، وتشفى من أوجاعها، وللكتب تأثير كبير، على مجريات حياة الإنسان، رغم أنّ هذا التأثير غير مرئي بالنسبة للكثيرين، يقول الروائي بول اوستر «الكتب لا توقف إطلاق الرصاص ولا تمنع القنابل من الانفجار ولا تغذّي طفلاً جائعاً، لكنها تغذّي النفوس، وهذا الغذاء جوهري»، وهي ليست غذاء، فحسب، بل شفاء للنفوس العليلة، وكان الإغريق القُدَامى يُسمّون المَكتَبة، «مكان شِفاء الرُوح»، ففي الكتاب نجد شفاء من كلّ سقم، ودواء لكلّ داء، فهي التي حفظت المعرفة الإنسانية، ودوّنت أحداث تعاقب العصور، وساهمت في فتح الأذهان، لذا، كان المتعطّشون للمعرفة يشدّون الرحال، وينتقلون من بلد إلى بلد، بحثا عن كتاب معيّن لنسخه، قبل أن يخترع جوتنبرغ المطبعة عام 1440 في ألمانيا، وهو الاختراع الذي أحدث نقلة معرفية كبيرة، فجعل الكتب متاحة للجميع، وكانت المكتبات في الحضارات القديمة، وخصوصا حضارة وادي الرافدين التي ظهرت بها الكتابة في حدود 3200-3000 ق.م في مدينة الوركاء، إذ عثر فيها الآثاريون على الألواح الطينية وما دوّن فيها من نصوص مكتوبة بالخط المسماري، ولاحظوا أن تلك الألواح كانت موضوعة في أماكن خاصّة، تلك الأماكن هي خزانات الكتب، أو المكتبات، كما نسمّيها اليوم، وكان بعضها موجودا في مراكز الحكم، مثل نينوى، التي وجدت فيها مكتبة الملك الآشوري آشور بانيبال(668-631ق.م) مثلما اكتشفت بها مكتبات خاصة بالمعابد، ومن بينها معبد مدينة سُبّار، ويؤكّد د. فاضل عبدالواحد أن في هذه المكتبة تمّ العثور على أكثر من (500) لوح موضوعة « كما رتّبها صاحبها الكاهن البابلي، في رفوف مبنيّة الواحد فوق الآخر، وحرصا على بقائها محفوظة بعيدة عن العبث وتأثيرات الطبيعة فإنه غطّى تلك الألواح بطبقة من الطين»، وهذه إشارة مهمّة تبيّن المكانة العالية التي كانت تحتلّها الكتب، أو ألألواح، في الحضارات القديمة، هذه المكانة استمرّت إلى اليوم، رغم ظهور الكثير من الوسائل التي صرفت الكثيرين عن القراءة، ومع تراكم الكتب في البيوت برزت الحاجة للمكتبة المنزلية، التي لم تعد من الكماليّات في البيت، بل من الضرورات في كلّ بيت، فهي مظهر حضاري، يقول ميخائيل نعيمة «عندما تصبح المكتبة في البيت ضرورة كالطاولة والسرير والكرسي والمطبخ ، عندئذ يمكن القول بأننا أصبحنا قوما متحضرين»، فالمكتبة مظهر ثقافي وحضاري.
البعض يرى أن عدد الكتب التي في حوزته لا تكفي لملء رفّ في مكتبة المنزل، فماذا يفعل بالفراغ؟ وكيف يمكنه ملء بقيّة الرفوف؟ وهذه ليست مشكلة، فالكتاب يجرّ الكتاب، وسرعان ما تمتلئ الرفوف، وحتّى لو كانت قليلة، فالكتب ليست بالكثرة، ولا بالحجوم، بل تُقاس بالفائدة المرجوّة منها، وفي ذلك ينصح الكاتب الأرجنتيني بورخيس من ينوي إنشاء مكتبة «أنشئ مكتبة ولو من ثلاثة كتب، وستقاوم جزءا من قباحة هذا العالم، كل مكتبة هي صفعة في وجه العالم الجاهل، وترفع عن أميته وخفته». وخلال تجوالي في معرض بغداد الدولي للكتاب، الذي اختتم الشهر الماضي، لاحظت الزحمة الشديدة للزوّار وهي بشّر بعافية ثقافية، وحضاريّة، وقد أكّدت، هذه الزحمة الشديدة، أن الكتاب الورقي ما يزال يحظى بمكانة رفيعة في حياة الناس، لكننا بعد انتهاء كلّ دورة من دورات معارض الكتب، نفتح الأكياس الممتلئة التي جلبناها من المعرض، ليأخذ كلّ كتاب مكانه في المكتبة، ثمّ نضع برنامج قراءة، وفي هذا السياق، التقيت صديقا، كان يتجوّل بين أجنحة المعرض «صفر اليدين من الطراز الأوّل»، كما يقول الشاعر العربي، فسألته إن كان قد طال بحثه بين دور النشر، فلم يجد ضالّته بعد، لكنه قال «الكتب موجودة، والعناوين تفتح الشهيّة للقراءة، لكنّني لم أشتر كتبا جديدة، لأنني لم أكمل بعد قراءة الكتب التي اقتنيتها من المعرض بدورته السابقة» قلت له: ولماذا لم تقرأ الكتب التي اشتريتها من المعرض السابق؟، فتعذّر بانشغالات الحياة، وهي انشغالات جعلت مساحة القراءة تتراجع يوما بعد آخر، وأنستنا أن في كلّ يوم تصدر كتب جديدة، ولكي نواكب الإصدارات الجديدة علينا أن نضع برنامج قراءة، ونخصّص جزءا من وقتنا لها، فالمؤلّفون يكتبون، والمطابع لا تتوقّف مكائنها عن الطباعة، ودور النشر مستمرّة في طرح عناوين جديدة، وبرنامج القراءة هذا، سيجعلنا على تواصل يومي مع المعرفة الإنسانية وإنجازاتها، لكي لا تتكدّس الكتب على الكتب في «مكان شفاء الأرواح».
