غوستافو بيترو ... رئيس دولة بدرجة «ضمير»!

27 سبتمبر 2025
27 سبتمبر 2025

ليس للإبادة الجماعية حسنات، لكن إبادة غزة أظهرت معادن كثير من الساسة والمؤثرين والمشاهير، مذكِّرةً إيانا بقول الشاعر: جزى الله الشدائد َكل خير / عرفتُ بها عدوي من صديقي. كانت غزة اختبارًا أخلاقيا كبيرًا نجح فيه من نجح، وسقط من سقط. ومن القلائل الذين نجحوا بامتياز في هذا الاختبار الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، الذي ظل طوال سنتين من عمر الإبادة الإسرائيلية على غزة - حتى الآن - متصدرًا صوت الضمير الإنساني الرافض هذه الإبادة بوضوح، ودون تلعثم. وكان آخر مواقفه المشرفة مطالبته في خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الثلاثاء الماضي بتشكيل قوة دولية مسلّحة لحماية المدنيين الفلسطينيين ومنع استمرار إبادتهم.

بالكاد كان بيترو قد أمضى عامًا واحدًا في الحكم، كأول رئيس يساري في كولومبيا، حين وقعت أحداث السابع من أكتوبر 2023. وبعدها بيومين شاهدنا وزير الدفاع الإسرائيلي - آنئذ - يو أف غالانت يعلن أن إسرائيل «تفرض حصارًا كاملًا» على غزة مضيفًا عبارته العنصرية: «نحن نقاتل حيوانات ونتصرّف على هذا الأساس»، فما كان من الرئيس الكولومبي إلا أن رد عليه -في اليوم نفسه - على صفحته في منصة إكس أنّ «الشعوب الديمقراطية لا يمكن أن تسمح بإعادة ترسيخ النازية في السياسة الدولية» واصفًا تصريحه بأنه يرقى إلى «خطاب كراهية». وكان على بيترو أن يتحمل ردود الفعل الغاضبة من الإسرائيليين، ومنهم السفير الإسرائيلي في بلاده غالي داغان، الذي طالب كولومبيا بإدانة أحداث السابع من أكتوبر واصفا إياها بأنها «هجومٍ إرهابي ضد مدنيين أبرياء»، لكن الرئيس الكولومبي رد عليه: «الإرهاب هو قتل الأطفال الأبرياء، سواء في كولومبيا أو في فلسطين». وفي محاولة يائسة لتغيير قناعاته دعا السفير الإسرائيلي بيترو إلى زيارة نصب الهولوكوست في القدس ومخيّم الموت أوشفيتز بيركيناو في بولندا، فردّ الرئيس بأنه يرى ما جرى هناك «يُستنسَخ في غزّة»، وأضاف: «لا يمكن لأي ديمقراطي في العالم أن يقبل بتحويل غزّة إلى معسكر اعتقال».

بعد حوالي شهرين؛ وتحديدًا في 31 أكتوبر 2023، وحين رأى أن حرب الإبادة لا تزال مستمرة، استدعى الرئيس بيترو السفيرةَ الكولومبيةَ في إسرائيل للتشاور مؤكدًا أنه «إذا لم توقف إسرائيل المجزرة بحق الشعب الفلسطيني»، فستقطع كولومبيا العلاقات الدبلوماسية معها، وهو ما حدث بالفعل في مطلع مايو 2024. وكان قبل ذلك بشهرين (أي في 29 فبراير 2024) قد أعلن تعليق بلاده مشتريات الأسلحة من إسرائيل، بعد المجزرة التي ارتكبها جيش الاحتلال في حق عشرات من الفلسطينيين كانوا ينتظرون المساعدات الغذائية جنوب مدينة غزة، وكتب على حسابه في منصة «إكس»: «بطلبهم للطعام، قُتِل أكثر من 100 فلسطيني على يد نتنياهو. هذا يُسمى إبادة جماعية ويذكِّر بالهولوكوست، حتى وإن لم تُرِد القوى الكبرى الاعتراف بذلك».

بعد نحو شهر، وتحديدًا في 5 أبريل 2024، قدمت كولومبيا، وبإيعاز من رئيسها، «إعلان تدخل» في محكمة العدل الدولية في القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل تتهمها فيه بالإبادة الجماعية لأهل غزة. و«إعلان التدخّل» هو إجراء قانوني يسمح لدولة ليست طرفًا أصليًّا في النزاع أن تتقدّم للمحكمة لتعرض تفسيرها الخاص لنصوص معاهدة دولية مرتبطة بالقضية، وهي هنا معاهدة «منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها» التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في 9 ديسمبر عام 1948. وأكدت كولومبيا في مذكرتها أن الالتزامات المنصوص عليها في الاتفاقية جماعية وتُلزم جميع الدول، وليس فقط الدول المتورطة مباشرة بجريمة الإبادة، وقالت إن واجب المنع يقتضي تحركًا دبلوماسيًّا وإنسانيًّا وقانونيًّا لمنع الجريمة أو وقفها، معتبرة أن حرمان المدنيين الفلسطينيين من الغذاء والماء والدواء يندرج ضمن أفعال الإبادة، وأن ضمان تدفق المساعدات إليهم واجب لا يمكن تعطيله. كما ركزت المذكرة على خطابات الكراهية التي تنزع عن الفلسطينيين إنسانيتهم، واعتبرتها شكلًا من أشكال التحريض على الإبادة.

لم يكتفِ غوستافو بيترو بكل ما فعله خلال عام من حرب الإبادة ضد غزة، بل أصدرت حكومته في 14 أغسطس 2024 قرارًا بفرض حظر فوري على صادرات الفحم إلى إسرائيل، وهو قرارٌ من شأنه أن يصيب اقتصاد إسرائيل في الصميم، خصوصًا إذا ما علمنا أن الفحم يشكّل أكثر من 90% من صادرات كولومبيا إليها.

ولأنه يعلم أن كل هذه الجرائم الإسرائيلية في حق الشعب الفلسطيني الأعزل ما كانت لتحدث لولا الدعم السياسي والعسكري والاقتصادي الدائم للولايات المتحدة الأمريكية، فإنه لم يوفرها من انتقاداته. وفي كلمته الأخيرة في الجمعية العامة للأمم المتحدة الثلاثاء الماضي، اتهم الرئيسَ الأمريكيَّ دونالد ترامب بالتواطؤ في الإبادة الجماعية لأهل غزة، مشبِّهًا إياه بهتلر: «المجتمعات القديمة في أوروبا تنهار، والولايات المتحدة تُصفِّق لهتلرها الجديد. إن ما يجري اليوم هو الأمر نفسه الذي فعله هتلر: بناء معسكرات اعتقال للمهاجرين، وإلقاء اللوم عليهم تمامًا كما ألقى هتلر اللوم على اليهود». وقد شارك بيترو في مظاهرة مؤيدة لفلسطين في نيويورك، وهناك دعا علنًا الجنودَ الأمريكيين إلى عصيان أوامر ترامب إذا كانت موجهة ضد المدنيين، الأمر الذي أغضب الرئيس الأمريكي، وبعد ساعات فقط، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية سحب تأشيرة زيارته للولايات المتحدة، ووصفت تصريحاته بأنها «متهورة ومحرضة على الفوضى».

نسمع كثيرًا أن الدخول في عوالم السياسة ودهاليزها يلطخ صفحة المرء البيضاء ويدمغها بالسواد، ويجعله يعتاد خصلات سيئة لم تكن موجودة فيه قبل أن يصبح سياسيًّا، كالكذب والمداهنة والنفاق، وعدم الشعور بآلام البسطاء. ورغم أنه هذا صحيح، ولا يمكن نكرانه لدى السواد الأعظم من الساسة، إلا أن له استثناءات على ما يبدو. وفي مقدمة هذه الاستثناءات غوستافو بيترو، الذي يثبت لنا يومًا بعد آخر، أنه يمكن أن تكون سياسيًّا وإنسانًا في الآن ذاته، ويمكن أن تكون رئيس دولة، وصوت الضمير الإنساني في الوقت نفسه.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني