شارع الرشيد.. ذاكرة العراق المعاصر
مثلما معروفة (بغداد)، ثقافيا، بمكتباتها، ومقاهيها، فهي معروفة بشوارعها، ويقف (شارع الرشيد) في مقدّمة شوارعها كونه يحمل بُعدا تاريخيا، وعمرانيا، وثقافيّا، وقد ظلّ علامة بارزة في بغداد، منذ افتتاحه في عام 1916م عندما كان العراق تحت الحكم العثماني ، الذي نصّب خليل باشا واليا عليه، لذا حمل اسمه في البداية، فكان (شارع خليل باشا) ومنذ ذلك التاريخ حتى 2003 أعيد اعماره مؤخّرا، لذا حرصتُ في زيارتي الأخيرة أشدّ الحرص على السير في (شارع الرشيد) الذي كثيرا ما كنّا في الثمانينيات نقطعه عدّة مرّات منتقلين من مقهى إلى مقهى ومن مكتبة إلى أخرى، ومن مسرح إلى مسرح، فهو همزة وصل بين منطقتين وبابين هما : الباب المعظّم شمالا، والباب الشرقي جنوبا.
وفي زيارتي الأخيرة لـ(شارع الرشيد) لم يرافقني صديقي الشاعر عدنان الصائغ، كما اعتدنا في تلك السنوات الموشّحة بدخان الحرب، وأصوات الطائرات المغيرة، وسواد اللافتات، فحملت معي نسخة من كتابه (شارع الرشيد؛ وطنٌ في شارع) الصادر عن دار أبجد للنشر والترجمة والتوزيع 2025م، وحين تصفّحته، وأنا أستمتع بطعم (الشاي) في أحد المقاهي، وجدت الصائغ يربط غيابه عن الوطن بغيابه عن شارع الرشيد، فالعلاقة بين الشاعر والشارع مشيميّة، يقول الصائغ: «قبلَ أنْ أدلفَ إلى شارعِ الرشيد، وقبلَ أنْ يغيبَ الدرويشُ عن أنظاري، وصياحُهُ عن أسماعي، يغيبُ عنّي شارعُ الرشيدِ»، أغلقت الكتاب وعدت إلى العنوان، فاستوقفتني جملة (وطن في شارع) وكانت مضيئة ودقيقة، فهذا الشارع مثّل علامة بارزة في الحياة الثقافية العراقية، وقد اختزل تاريخ العراق، ليس فقط لكونه أقدم شوارع بغداد، بل لأنه شهد أحداثًا سياسيةً كثيرةً، تعود بداياتها إلى الحرب العالمية الأولى عندما كانت العربات العسكرية تقطعه جيئة وذهابا، وعندما انتهت الحرب جرت توسعته، ففتحت المحلّات عن جانبيه، والمقاهي التي تعجُّ بالأدباء والمثقفين كالرصافي والزهاوي والجواهري والسياب والبياتي ليصبح مركزا حيويا، في العاصمة العراقية، وانتشرت المكتبات ومحلات الحرفيين ودور السينما والمسارح، ومن بينها مسرح( الهلال) الذي غنّت به أم كلثوم خلال زيارتها للعراق عام 1932، وسبقتها منيرة المهدية عام 1919م وتبدّل اسمه عام 1936م ليحمل اسم (الرشيد) نسبة للخليفة العباسي هارون الرشيد أحد أبرز الخلفاء الذين حكموا بغداد أيام الدولة العباسية، وازدهرت في حكمه، ولم يقف كتاب عدنان الصائغ متفرّدا في التغنّي بتاريخ (شارع الرشيد) ومكانته في الوجدان الثقافي العراقي والعربي، كثيرون قبله وضعوا كتبا في الشارع الشهير، ومن بينهم الناقد ياسين النصير الذي وضع كتابا حمل عنوان (شارع الرشيد: عين المدينة وناظم النص) صدر عن دار أهوار في بغداد 2024م وكذلك ألّف الكاتب سعدون الجنابي كتابه (رحلة في شارع الرشيد) الصادر عن دار ومطابع الأديب في عمّان 2022م، وتحدّث فيه عن المباني التي تميّزت عمارتها بطابع فريد يحمل نكهة بغداد القديمة، ومعالم الشارع والمكتبات، والجوامع كجامع الحيرخانة والأسواق كسوق هرج وأشهر المحلات القديمة في الشارع ككعك السيد الذي عمره تقريبا من عمر الشارع، واشتهر حتى قال به الرصافي:
يا لذّتي تجدّدي
بأكل كعك السيّد
لنكهة تعرفها
كلُّ بيوت البلد
لكن طال الإهمال (الرشيد) بعد 2003 م وصار مكانا مقفرا تغلق محلاته التجارية عصرا لغياب الأمن، وكم كان قلبي ينقبض عندما أمرّ في زيارتي لبغداد بالشارع !، فأراه موحشا، حزينا، يبكي مجدا تليدا، توارى فجأة، لكن ظلّت ذاكرته حيّة، وظلّت الجدران المتهالكة تروي صفحات من ذلك المجد، حتى التفتت له الجهات المسؤولة، فأطلقت مشروعا أعاد الحياة إلى بغداد القديمة، حمل عنوان(نبض بغداد) بدأ بإعمار شارع المتنبي والسراي، ومحيط تلك المنطقة، وامتدّت يد الإعمار لتشمل (شارع الرشيد )، وشمل المشروع ترميم المباني التراثية على امتداد ثلاثة كيلومترات ليعود من جديد، حتى اكتمل العمل به في منتصف فبراير الماضي بالتزامن مع اختيار بغداد عاصمة للسياحة العربية 2025م .
وحين وضعت كتاب عدنان الصائغ تحت ابطي، وتجوّلت في شارع الرشيد وشاهدت المعرض التفاعلي( شارع الرشيد..شارع الذكريات وملتقى التراث والحداثة) الذي أقيم في المركز الثقافي البغدادي،أحسست أن الحياة، بإعمار هذا الشارع الحيوي، قد عادت إلى روح بغداد، وشعرت أن الشاعر قد عاد إلى الشارع الأثير إلى قلبه، وقلوب المثقفين العراقيين والعرب الذين يحرصون خلال زياراتهم لبغداد على التجوال في ذاكرة العراق المعاصر من خلال تجوالهم في (شارع الرشيد ) .
عبدالرزّاق الربيعي شاعر وكاتب عماني
