السلام العالمي.. وحرّاسه في «لاهاي»
خلال زيارتنا لـ(لاهاي) العاصمة السياسية لهولندا، حرصت مع المشاركين في مهرجان «ميزوبوتاميا الشعري الدولي» الذي نظّمته مؤسسة «بلاد ما بين النهرين في (لاهاي)»، على زيارة مبنى محكمة العدل الدولية، الهيئة القضائية الرئيسة لمنظمة الأمم المتحدة، الصرح الأشهر عالميّا في قضايا العدل، ويقع هذا المبنى في قصر السلام المنيف، ومنذ إنشاء هذه المحكمة بعد مخاضات طويلة عقب الحرب العالمية الثانية، وتحديدا عام 1945م وتولّت الفصل في النزاعات القانونية بين الدول، فكانت بمثابة حارس للسلام العالمي، وقد شهد عام 1947 رفع القضية الأولى من قبل بريطانيا ضد ألبانيا بشأن نزاع حصل في قناة كورفو الألبانية بعد انفجار ألغام تسبّبت بأضرار بسفن حربية بريطانية خلال مرورها بالقناة عام 1946م وقد سبق هذا الحادث إطلاق نار من قبل حراس الساحل الألباني، على السفن البريطانية، وكان قرار المحكمة لصالح بريطانيا.
وللوصول إلى المبنى قطعنا نصف الطريق سيرا على الأقدام بحثا عن سيارة أجرة في أمكنة غير متاح لسيارات الأجرة الوقوف في أيّ مكان تشاء، فيما تمتلئ المسارات المخصصة للدراجات الهوائية بالعشرات منها في بلد عدد سكانه 18 مليون نسمة فيما يصل عدد الدراجات إلى حوالي 30 مليون دراجة! ولمن لا يعتلي درّاجته يستخدم في تنقّلاته وسائل النقل العمومية كالقطارات والحافلات، والترامات، وبعد أن طالت المسافة وكلّت الأقدام من السير، اضطررنا لصعود أحد الترامات، وبعد دقائق قليلة وجدنا أنفسنا أمام قصر السلام الذي افتتح في 28 أغسطس 1913م ويطلق عليه مقر القانون الدولي، هناك وجدنا السيّاح يتجمّعون حول البناية الأشهر في (لاهاي)، التي ارتبط اسمها بالمحكمة، وتمركز الحكومة والمنظمات الدولية فيها، كان السيّاح يلتقطون الصور التذكاريّة قرب قلعة العدل، لم يكن المبنى مفتوحا للزوّار فاكتفينا بالتقاط الصور من خارج القصر، وقد حدّثني الصديق علي شايع الإعلامي المقيم في هولندا، منذ حوالي أربعة عقود، عن وثيقة مهمّة توجد في مكتبة المحكمة انتصرت فيها العدالة العالمية للسلطنة، بعد البحث عرفت أن القضية تعود إلى 8 أغسطس 1905 حين صدر حكم محكمة التحكيم الدائمة التي تأسست عام 1900م في قضية «سفن مسقط الشراعية» بين فرنسا وبريطانيا، وهو من أوائل أحكامها، ونصّ القرار على أن لكل دولة حرية تنظيم منح علمها مع تقييدٍ يراعي اتفاق بروكسل 1890 لمكافحة تجارة الرقيق، ما أغلق باب إساءة استخدام الأعلام الأجنبية في بيئة الخليج ومسقط آنذاك. وبذلك ارتبط اسم عُمان مبكرا بسجلّ القضاء الدولي في لاهاي، في وثيقة مؤرَّخة صراحةً بعبارة -تم إن لاهاي- وما تزال تُدرَّس اليوم كمرجع في القانون الدولي البحري.
وقد وثّق الأرشيف الوطني الهولندي العلاقات العُمانية-الهولندية التي شهدت نشاطا منذ عام 1666، ولم يتح الوقت لنا لزيارة مدينة نايميخن التي تقع على بُعد 125 كيلومترا من مدينة لاهاي؛ ففيها القرية العُمانية التي افتُتحت عام 2011، في متحف الشرق للثقافة والأديان، وشهدت إقبالا واسعا من الزوّار حتى أنها استقطبت العام الماضي 60 ألف زائر، وجاء تأسيسها لتكون جسرا للتواصل الثقافي للربط بين الثقافات وتعريف العالم بالهوية العُمانية من خلال عرض نماذج للأفلاج، وسوقٍ للحِرَف، وأزياء تقليدية؛ وتاريخها البحري، فتعطي زوّار القرية نبذة عن التراث العُماني والخليجي والثقافة العربية والإسلامية وتُقدِّم مادةً موثوقة ومُلهمة للباحثين والكتّاب عن العلاقات الثقافية العُمانية-الهولندية، إلى جانب ذلك توجد في مدينة لاهاي وثائق وصور مهمّة عن عمان ولعل أبرزها، مواد مصوَّرة مباشرة عن سلاطين عُمان داخل قاعدة صور الأرشيف الوطني، هذه الصور تتحدّث عن زيارة سلطان مسقط وعُمان للهند عام 1949؛ والسُّلطان سعيد بن تيمور من 1938، ومسارات بحرية وخرائط لعمان منذ القرن 17، وصور قديمة لمسقط والخليج ومخطوطات.
وقد توّجت العلاقات العُمانية-الهولندية بزيارة رسمية لجلالة السُّلطان هيثم بن طارق آل سعيد -حفظه الله ورعاه- إلى مملكة هولندا في أبريل 2025، التي دلّت على عمق الروابط التاريخية بين البلدين وجرى فتح قنوات تعاون جديدة.
حين غادرت (لاهاي) عائدا إلى (أمستردام) أشارت زوجتي الشاعرة جمانة الطراونة إلى مجموعة من الأعلام الفلسطينية في إحدى الساحات الكبيرة في العاصمة (أمستردام)، كانت في أيدي مجموعة من الشباب الهولندي، الذين شاركوا في وقفة احتجاجيّة معلنين تضامنهم مع القضية الفلسطينية موضّحين للمتجمهرين الجرائم التي تحدث في غزّة، مندّدين بغضّ العالم النظر عن هذه الجرائم والانتهاكات التي ترتكب بحقّ الشعب الفلسطيني، وغياب القانون الدولي، حملنا أحد الأعلام ونحن نردّد كلمات الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر علي الكيلاني، ولحّنها عمر الجعفري، وغنّتها جوليا بطرس وسوسن الحمامي وأمل عرفة: «وين العالم وين؟»
عبدالرزّاق الربيعي شاعر وكاتب عماني
