حين يحمل القاضي قلبا تحت ردائه.

23 أغسطس 2025
نوافذ ..
23 أغسطس 2025

كان عمر فيكتور كوليلّا ستة وتسعين عاما حين مَثُلَ أمام قاضي مدينة بروفيدنس التابعة لولاية رود آيلاند الأمريكية، بتهمة ارتكابه مخالفة قيادة سيارته بسرعة أمام منطقة مدارس في المدينة، بعد أن سجلتها كاميرا المراقبة. عاتبه القاضي على هذا التهور، فشرح له فيكتور والدموع في عينيه أنه كان يقود بسرعة لأنه يُقِلُّ ابنه البالغ من العمر ثلاثة وستين عاما، المصاب بالسرطان، إلى المستشفى. تأثر القاضي بقصته، ولم يكتفِ بإلغاء المخالفة وإسقاط القضية، وإنما امتدح أيضا على الملأ هذا العجوز الطاعن في العمر الذي ما زال يمارس أبوته الرحيمة حتى وهو في هذه السن المتقدمة. 

هذا القاضي هو الأمريكي فرانك كابريو قاضي المخالفات المرورية في مدينة بروفيدنس، الملقب بألطف قاضٍ في أمريكا، والذي ودع دنيانا يوم الأربعاء الماضي عن ثمانية وثمانين عاما، وسط حزن عارم عمّ الجميع في أنحاء العالم إثر نبأ رحيله، مستذكرين خصاله الحميدة، ومآثره الإنسانية. 

كانت حكاية كوليّلا واحدة من مئات القصص الإنسانية التي حكّم فيها كابريو حسه الإنساني قبل مواد القانون، وأكسبته شهرة عالمية، خصوصا بعد أن صارت هذه القضايا تبث عبر البرنامج التلفزيوني «جرى اعتقاله في بروفيدنس»، الذي بدأ شقيقه جو كابريو في إنتاجه وبثه منذ عام 1998، في قناة محلية صغيرة تابعة للمدينة، قبل أن تتبناه شبكة ABC، ويكتسب شهرة واسعة في أمريكا. ومع ظهور وسائل التواصل الاجتماعي في الألفية الجديدة وتنامي عدد مستخدميها، تحوّل هذا البرنامج إلى ظاهرة عالمية، إذ تابعه عشرون مليون مشاهد، فيما كانت المشاهدات بالمليارات. 

من حكاياته المتداولة الأخرى حكاية أوردها كابريو نفسه في كتابه «الرحمة في المحكمة» الصادر في فبراير الماضي، وهي حكاية معلمة الابتدائية جينا بيتّز، التي وقفت أمامه وبين ذراعيها ولد صغير ورضيعة، بسبب مخالفتي مرور غير مدفوعتين صادرتين ضد سيارة مسجلة باسمها. عرف القاضي منها أن المخالفتين كان قد ارتكبهما والد أطفالها المسجون. وقد دُهِشَ القاضي بأنها، رغم أنها ليست المتسببة فيهما، لم تتهرب من المسؤولية وجاءت إلى المحكمة، فكان أن أسقط عنها التهمة، معلقا على هذا الحكم في كتابه بالقول: «نصّ القانون كان سيُحتِّم عليّ أن أفرض عليها غرامة عن تينك المخالفتين، فالسيارة كانت مسجّلة باسمها، وهذا كل ما في الأمر. لكنني كنت أعلم أن تلكما المخالفتين لم تكونا من ارتكابها، وأن دفع غرامتهما سيسبّب لها مشقة مالية وشخصية أكبر. هي أم صالحة ومعلمة سيكون لها أثر مهم في حياة الكثير من الأطفال، وكان أولى بذلك المال الذي سيذهب للمخالفتين أن يُنفَق على طفليها». ثم يشرح فلسفته في القضاء بالقول: «أنا أؤمن بنظرية العدالة الرحيمة. أعتقد أن وضع كل شخص يختلف عن الآخر، لذلك آخذ القصة الشخصية لكل فرد بعين الاعتبار عند الفصل في القضية». وبعدها يطلق الحِكمة التي تصلح لأن يهتدي بها كل من وَلِيَ أمر القضاء: «تحت ردائي، أحمل قلبًا، لا شارة». 

في السنوات الماضية حين كنتُ أتابع مقاطع الفيديو التي تسرد إنسانية هذا القاضي، كنتُ أستعيد مع نفسي المقولة الشهيرة للإمام محمد عبده حين عاش فترة في الغرب: «وجدت هناك إسلامًا بلا مسلمين، ووجدتُ هنا مسلمين بلا إسلام»، وكنتُ أقول لنفسي إن كابريو هو الصورة النقيض لكل موظف بيروقراطي يحسِب ما عليه من واجبات، وما له من حقوق، بالورقة والقلم. وأتساءل: ماذا لو أن الجميع (ولا أقول موظفي سلك القضاء فقط) يحكِّمون قلوبهم أثناء عملهم، دون تجاهل طبعا لقوانين المهنة، ألن تسود الرحمة والتعاطف، ونكون اليوم في أحسن حال؟! 

ثمة من سيقول إن هناك جذورا إنسانية لكابريو هي التي صنعت منه هذا القاضي. وهذا ما يتأكد بالفعل حين نعود إلى كتابه أو بعض حواراته. فقد كان والده يبيع الفاكهة من عربة يدوية، ثم عمل بائع حليب. وكان فرانك يستيقظ عند الرابعة صباحًا ليساعد والده في التوزيع. يقول إن نشأته في الفقر، وفي حي فيديرال هيل؛ الحي الإيطالي في مدينة بروفيدنس، المليء بالمهاجرين، جعلته يتفهم المهاجرين الكُثر الذين وقفوا أمامه في المحكمة. بل إن كابريو تأثّر أيضًا بحادثة عائلية: فقد أُوقِفَ جده ذات مرة بعدما أثار الفوضى وهو يشرب مع أصدقائه. شعرت جدتُه بالرعب من احتمال أن يُسجن زوجها ولا تجد وسيلة لإعالة أطفالها العشرة. ذهبت إلى المحكمة وتوسّلت للقاضي، بإنجليزية ركيكة، ألا يرسله إلى السجن. فقال القاضي «إنه رجل صالح يعمل بجد لإعالة أسرته»، وأعاده إلى منزله، بل طلب منها أن تطبخ له وجبة جيدة. بعد حوالي سبعين عامًا من هذه الواقعة، أدى فرانك كابريو اليمين كقاضٍ في المحكمة نفسها. وكتب قائلًا: «عندما كنت أجلس على المنصّة وأنظر إلى أحد المتقاضين- خصوصا المهاجر الذي يقف أمامي وعيناه مليئتان بالخوف والقلق-كنت أرى في عينيه جدي وجدتي». 

هذه الجذور الإنسانية التي صنعت هذا القلب الكبير تُحسب له لا عليه، فهناك المئات غيره ممن عاشوا حياة الشظف التي عاشها، وكانوا مدينين للأيادي البيضاء التي امتدت إليهم بالعطف والإحسان، ومع هذا حين كبروا وابتسمت لهم الدنيا، تنكروا لكل أمر جميل، فلم يُحسِنوا لأحد، ولا ساعدوا محتاجًا، وعاشوا فقط لأنفسهم ومصالحهم الشخصية. أما فرانك كابريو الإنسان، فأحرى بنا أن نودعه اليوم بعبارة هوراشيو في ختام مسرحية «هاملت» الشهيرة لشكسبير، حين شاهد موت أمير الدنمارك أمامه: «ها هو قلب كبير قد تصدع»، داعيا له من كل قلبه أن تحمله إلى راحته الأبدية أسراب من الملائكة يرتلون. 

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني