هوامش ومتون :واحد من 49 مليونا!

19 يوليو 2023
19 يوليو 2023

بعضُ السفن عندما تتقاعد عن العمل، بعد طول خدمة، يُستفاد من هيكلها، فيتمّ تحويله إلى أمكنة استراحات، ومقاهٍ ومطاعم عائمة، أو متاحف، لكنّ سفينة «لوغوس هوب» تمّ تحويلها، في عام 2009م، بعد خدمة بدأت عام 1970م، ولم تزل في نشاطها، لتقوم بنشاط ذي صبغة عالميّة، تحمل خلاله رسالة معرفيّة، لتكون مكتبة عائمة هدفها «نشر المعرفة والمساعدة والأمل بين أبناء العالم» كما جاء في بطاقة الدعوة التي وجّهها قبطان السفينة وطاقم العمل لحضور حفل افتتاح المعرض الذي يعدُّ أكبر معرض عائم للكتاب في العالم، وذلك عشية رسوّها عند ميناء السلطان قابوس بولاية مطرح، وحين لبّينا الدعوة، وهي المرة الثانية التي تُتاح لنا فرصة زيارتها، إذ سبق لنا الصعود على متنها عام 2011 في زيارتها الأولى لسلطنة عمان، التي أعقبتها بزيارة ثانية عام 2013م، استحضرت قول لسان الدين بن الخطيب:

ركِبَ السّفينَةَ واسْتَقَلّ بأفْقِها

فكأنّما ركِبَ الهلالَ الفَرْقَدُ

فخامرني الشعور، وأنا أصعد متن السفينة، كأنني مضيت في رحلة ممتعة مع بقيّة المدعوّين وهم من مختلف الأعمار، ولم تكن تلك الرحلة بحرية، ولا على اليابسة، بل كانت بين هذا، وذاك، فالسفينة راسية، ونحن ننظر من النوافذ إلى المياه المنسابة تحتنا، حتّى أنّ مقدّم حفل الافتتاح طمأن الحضور، قائلا: إن طاقم السفينة أعدّ العدّة لضمان سلامة زوّارها لو حصل مكروه لأحدهم، لا سمح الله، وما أجملها من رحلة حين تكون بصحبة الكتب!!، فإذا كان المتنبي يرى أن «خير جليس في الزمان كتاب»، ففي مثل هذه الأماكن يصبح الكتاب خير رفيق سفر، خصوصا أننا اعتدنا على معارض الكتب التي تقام على اليابسة، ولم أتخيّل في يوم من الأيام أن نزور معرضا للكتب يقام على سطح الماء.

لقد ضمّت عناوين الكتب مختلف المجالات، من بينها الروايات، والفنون، والتاريخ، والمعاجم، واللغة، وكتب الأطفال، بلغات عالمية، ومن بينها العربية، وبعد قصّ الشريط، تجوّلنا في المعرض، فشاهدناه قد قُسّم إلى أركان، يعرض كلّ ركن للزائر الكتاب الذي تستهويه قراءته، وقد احتل ركن كتب الأطفال مساحة واسعة شملت العديد من العناوين، لذا وجد الأطفال الذين حضروا حفل الافتتاح ضالّتهم، في الكتب والفعاليات المصاحبة.

أشار قبطان السفينة في الكلمة التي ألقاها عن رسالتها، والأشواط التي قطعتها، منذ تحويلها لمكتبة عائمة، ومعرض يضمُّ خمسة آلاف كتاب، وبلغة الأرقام، لقد زارها ما يزيد على 49 مليون زائر، ومرّت بأكثر من 150 ميناء حول العالم، وهي تستقبل سنويا مليون زائر، وهذا يجعل زيارة المعرض حدثا استثنائيا، فقد وفّر لنا وللزوار فرصة الاطلاع على ثقافات العالم المختلفة من خلال الكتب المعروضة، والمواد المطبوعة، واللقاء بالمشرفين على المعرض الذين ينتمون لدول وثقافات متعددة، وكلّ فرد ينقل ثقافته، فعلى متنها يعمل حوالي 400 شخص من 70 جنسية، كلّهم يعملون بشكل تطوعي، وحين سألناهم عن الدافع الذي يجعلهم يتركون وظائفهم، فبينهم المعلّم، والموظّف، والمهندس، ويبتعدون عن أسرهم وبلدانهم ليعملوا على ظهر سفينةٍ تطوف بين الموانئ، من دون مقابل مادي، كان الجواب حاضرا، ويتلخّص في الشغف وحبّ المعرفة، والسفر، والاطّلاع على مختلف الثقافات، وحمل رسالة إنسانية، والتعرّف على ثقافة الأماكن التي ترسو عندها السفينة، ومعرفة تاريخها.

ولم تتوقّف أنشطة السفينة عند الميناء، فقد أقامت إدارة السفينة بالتعاون مع النادي الثقافي ورشة فنية في النادي حملت عنوان «الفن حول العالم» بمشاركة أكثر من 40 رساما ورسامة معظمهم من الشباب العماني، وكانت بإشراف فريق من المدرّبين من طاقم السفينة، مثلما يقيم النادي معرضا للصور الفنية على متنها، بإشراف الفنّان عبدالكريم الميمني، مساهمة من النادي في التعريف بالفن التشكيلي العماني.

وهنا لابدّ من الإشادة بحسن تنظيم عملية الوصول للسفينة الراسية عند الميناء، فالزوّار يتجمّعون في مواقف السيارات خلف مسجد (عمر بن الخطاب) في مطرح، لتنقلهم حافلات صغيرة مجهّزة، لمرسى السفينة، وبعد انتهاء الجولة تعيدهم للموقع الذي انطلقوا منه، نفسه.

وحين انتهت رحلتي مع الكتب على ظهر السفينة، ودّعتها قبل انطلاقها إلى محافظة ظفار لتشارك في فعاليات مهرجان الخريف، وشعرت بالفخر لأنني واحد من 49 مليون شخص صعد على متنها.