مجزرة جنين.. دروس مهمة للمستقبل!!

17 يوليو 2023
17 يوليو 2023

بالرغم من مرور 75 عاما على الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية بدعم أمريكي غربي منحاز ومتواصل، إلا أن الشعب الفلسطيني الشقيق المؤمن بحقوقه الوطنية المشروعة والمتمسك بها ظل يطور -قدر الإمكان- من أدواته النضالية ومن قدراته على مواجهة تكتيكات وأساليب الاحتلال الاستيطاني للحد من آثارها المباشرة وغير المباشرة على حياته ومستقبل أجياله. ومع الأخذ في الاعتبار المراحل المختلفة للنضال الفلسطيني فإنه يمكن القول إن مجزرة جنين التي جرت يومي الإثنين والثلاثاء الثالث والرابع من الشهر الجاري تؤشر لتطور على جانب كبير من الأهمية في مسيرة النضال الفلسطيني من أجل الخلاص من الاحتلال الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، صحيح أن مجزرة جنين لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة في إطار سياسة المجازر المتنقلة والمتتابعة التي تطبقها حكومة نتنياهو - وبن غفير العنصرية، ولكن الصحيح أن هذه المجزرة طرحت على سطح الصراع ما يمكن تسميته بالحد الأقصى من أساليب العنف والتدمير والقتل الإسرائيلية والرد الفلسطيني الممكن والمتاح حتى الآن على الأقل على ذلك من جانب الفلسطينيين وسط مناخ عربي وإقليمي ودولي لم يعد من المجدي ولا المفيد التوقف أمامه لأنه ببساطة كان كالعادة، وعلى مدى سنوات عدة، نوعا من إبراء الذمة الإعلامية والسياسية التي دأبت عليها العديد من الأطراف وليواجه الفلسطينيون مصيرهم بصدور عارية مقابل آلة الدمار والعنف الإسرائيلية وليساعدهم الله. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب منها ما يلي:

أولا، إن مما له أهمية ودلالة أن ما حدث في جنين سيشكل في الواقع منعطفا جديدا في السياسة والممارسة الإسرائيلية بمعنى أدق، فحكومة نتنياهو - وبن غفير الحالية لم تتبع أسلوبا جديدا ولم تخترع ممارسات همجية لم تتبع من قبل ولكنها عمدت إلى تصعيد درجة التدمير والإرهاب ضد الفلسطينيين واتباع أسلوب الأرض المحروقة ضد مربعات سكنية محددة والتعامل معها كأنها أرض قتال بغض النظر عن وجود وعدد المدنيين المتواجدين في المساحات المستهدف تدميرها، وبهذا الأسلوب تجاوزت الحكومة الإسرائيلية ما كان يتم اتباعه من أساليب سابقة مثل تكسير الأيادي وهدم المنازل وفرض العقوبات والوصول بالصدمة والتخويف إلى حد الرعب ضد المدنيين الفلسطينيين، وهو ما عبر عنه نتنياهو بأنه بمثابة «سياسة إسرائيلية جديدة» تحقق مصلحة إسرائيل في الفترة القادمة على حد قوله. وكترجمة لهذه السياسة والدرجة المبالغ فيها من التصعيد واستخدام القوة المفرطة ضد الفلسطينيين بشرا وأرضا ومؤسسات، حشد الجيش الإسرائيلي نحو 1000 جندي من قوات النخبة وحوالي تسعمائة جرافة وآلية ومجنزرة في مساحة محدودة من مخيم جنين الذي لا تتعدى مساحته الكلية خمسمائة متر مربع ومن ثم يمثل المعسكر واحدا من أعلى الأماكن اكتظاظا بالسكان في العالم بكل ما يترتب على ذلك من نتائج، ومع استخدام القوة المفرطة بما فيها الأسلحة البرية والطائرات المسيرة والمدفعية والطائرات المقاتلة أيضا جرت عمليات إجلاء قسري لنحو ثلاثة آلاف من بيوتهم وتدمير وتضرر عدد كبير من المنازل والشوارع ومرافق الخدمات وعلى نحو حول معسكر جنين وبشكل متعمد إلى منطقة تصعب فيها الحياة بالنسبة للفلسطينيين. ولم يخف الإسرائيليون الهدف من عملية التدمير الشاملة في معسكر جنين وهي - كما أعلن - ضرب وتفتيت أو محاولة إضعاف الحاضنة الشعبية لرجال المقاومة الفلسطينية في المخيم تمهيدا للإجهاز عليهم حسبما يخططون من ناحية، وممارسة أقصى ضغط عملي للتخلص من معسكر جنين وذلك بممارسة أقصى ضغط على سكان المخيم لدفعهم إلى النزوح خارج المخيم في محاولة لتكرار نزوح 1948 بشكل أو بآخر من ناحية ثانية وفي خلال أقصر وقت ممكن، ووضع العالم أمام أمر واقع يضطر للتعامل معه في النهاية.

وبالرغم من هذا الحشد العسكري للقوات الإسرائيلية، ونية نتنياهو وبن غفير تدمير معسكر جنين، والأكثر من ذلك جعله عبرة ونموذجا للمواقع النضالية وللمعسكرات الفلسطينية الأخرى في محاولة لاحتواء قوى المقاومة الفلسطينية، خاصة في المواقع التي تشكل بؤرا قابلة للتطور والنمو، إلا أن الفشل هو نتيجة حملة جنين في جوهرها وفي نتيجتها الاستراتيجية، على الأقل في بعض الجوانب.

ثانيا، إن الحكم بالفشل على حملة جنين ليس حكما عاطفيا منحازا ولا استمرارا لأحكام عربية معروفة ولكنه خلاصة وتجسيد لنتائج ما حدث ولما يعنيه من معنى. صحيح أنه تم تدمير شوارع الجزء المستهدف من المخيم والقريبة من البوابة الرئيسية التي سيطر عليها الإسرائيليون، وفي الوقت ذاته كممر للتعزيز وكمخرج للانسحاب منه وللحيلولة دون حصارهم ووقوعهم في مصيدة داخل المخيم بشكل أو بآخر في حالات ليست مستحيلة تكتيكيا. يضاف إلى ذلك أن النازحين الفلسطينيين عاد عدد كبير منهم إلى منازلهم واستأنفت بلدية جنين عمليات الإصلاح وتعهدت أطراف عربية بتقديم يد المساعدة والتخفيف من معاناة السكان وإصلاح الأضرار في أسرع وقت ممكن كما زار الرئيس الفلسطيني محمود عباس المخيم للمرة الأولى منذ نحو عشر سنوات كلفتة للتضامن مع أبنائه وتعزيز التماسك الفلسطيني. ويضاف إلى ذلك أنه مع استمرار الاجتياح الإسرائيلي لأكثر من 24 ساعة سجلت عمليات مهاجمة القوات الإسرائيلية خارج جنين وفي مدن مختلفة زيادة واضحة، صحيح أنها عمليات فردية، واثنان منها تمتا بتوجيه تنظيمي وانطلقت بضعة صواريخ من غزة قبيل توقف العمليات، ولكن المرجح أن قيادة العمليات الإسرائيلية سارعت إلى وقف العمليات خشية أن يؤدي استمرارها إلى اتساع عمليات المقاومة الفردية في عدد متزايد من المدن في الضفة الغربية وتحول موقف الفصائل الفلسطينية في غزة لتدخّل بعضها على الأقل إلى جانب مقاتلي جنين، بما قد يترتب على ذلك من تغيرات تفرض نفسها على سير العمليات وما يمكن أن يواكبها من نتائج. صحيح أن القوة الإسرائيلية متفوقة ولكن الصحيح أيضا أن الفشل الإسرائيلي كان يمكن أن يكون أكثر وضوحا واتساعا أو تدخل إسرائيل في مواجهة أوسع ولكنها أرادت أن تتوقف لتقييم ما حدث وما إذا كانت حملة جنين قد أوصلت رسالتها. على أية حال فإن تغير الموقف ورد الفعل الأمريكي بين بداية الاجتياح ونهايته، أي خلال نحو 48 ساعة فقط ومن النقيض إلى النقيض، بل وانتقاد سلوك الحكومة الإسرائيلية، يعكس فشل العملية الإسرائيلية في الواقع. ولم يكن رد الوزير بن غفير على واشنطن مصادفة، خاصة أنه كرر للمرة الثانية «إن إسرائيل ليست نجمة في العلم الأمريكي»، ويظل الموقف الأمريكي مفهوما خاصة في إطار رغبة واشنطن في استعادة التعاون الأمني بين السلطة الفلسطينية وبين إسرائيل، وأكد بايدن نفسه على ذلك، وحديثه عن حل الدولتين والتمسك به ذو معنى في هذا الاتجاه.

ثالثا، من المؤكد أن فشل حملة جنين إسرائيليا رغم الدمار الهائل الذي أحدثته هو فشل أسلوب وليس فشل قدرة، فبرغم أن الوزير بن غفير مهووس بأساليب إسرائيل في مرحلة السنوات الأولى لقيامها وتوسعها في الضفة الغربية، إلا أن الواقع الفلسطيني والعربي والدولي الراهن اصبح مختلفا عما كان عليه الحال قبل أكثر من سبعين عاما. ومن أهم دروس حملة جنين أنه لا يمكن تكرارها بسهولة ولا بخسائر محدودة على مختلف المستويات، يضاف إلى ذلك أن الفلسطينيين الذي أدركوا قيمة وضرورة التمسك بالأرض مهما حدث أدركوا أيضا قيمة الحاضنة الشعبية في حماية المقاتلين والحفاظ عليهم وزيادة عددهم من ناحية وفي دعم أساليب المقاومة والنضال الشعبي بصوره المختلفة من ناحية أخرى، خاصة أنه تتوفر للفلسطينيين خبرات عدة في القدرة على دمج أساليب المقاومة والاستفادة منها، كل حسب ظروفه ومعطياته. ومع إدراك ظروف مختلف الأطراف وحساباتها فإن الكرة تعود مجددا لجماهير الشعب الفلسطيني، أما مصالح الفصائل والتنظيمات فإنها للأسف تسبق مصالح القضية رغم أي شعارات، والأمثلة كثيرة وعملية ومتجددة، فهل يكون الرهان على جيل جديد من أمثال مقاتلي جنين ونظرائهم؟ والمطمئن أن التجارب النضالية تجدد نفسها دوما.