تطوير سيناريوهات القيم
ثمة سياقات مهمة تدفع اليوم إلى تكرار وتركيز الحديث حول الحالة القيمية، بعضها ما يتصل بما يروج له اليوم تحت مسمى "القيم الكونية/ القيم العالمية" – مع تحفظنا البالغ على هذا التوصيف – ذلك أنه لابد من مساءلة مصدر كونية هذه القيم، ومستويات الإجماع والقبول العام الفعلي لهذه القيم، وطبيعة (حوامل) هذه القيم الثقافية والاقتصادية والسياسية، عوضًا عن مرجعياتها سواء التأصيلية أو الفلسفية أو البشرية. أما السياق الآخر الذي يدفع لتكرار الحديث عن المسألة القيمية، فهو المهمة العصية التي أصبحت تتعقد اليوم في صعوبة فصل (تسويق وتدويل القيم) عن الموجات الاقتصادية ومفاهيم النفوذ والسيطرة وأدواتها العالمية. فيما يبدو السياق الثالث – وهو الأهم في حالتنا الراهنة- هو في ضرورة الانتقال في التأكيد على القيم من الحالة (الوعظية) إلى حالة (هندسة القيم). ونعني بها هنا معالجة أصول تشكل تلك القيم وشيوعها – إن كانت قيمًا غير مرغوبة في سياق حالة الاستقرار المجتمعي –، أو تأكيد تلك القيم واستنباتها عبر الأجيال كمعتقدات، وتفضيلات، وممارسات – إن كانت قيمًا مرغوبة وضرورية لحالة الاستقرار المجتمعي-. وقد لا تكون هذه المرة الأولى التي ندعو فيها إلى حديث جاد وموسعٍ حول الحالة القيمية، ولكننا نعتقد إن تضافر العوامل الملحة لهذا الحوار بات يومًا بعد يوم أكثر اشتدادًا. فالمسألة القيمية لم تعد اليوم مسألة ثقافية، بالمعنى السيويولوجي للثقافة. بل باتت مسألة اشتباكية في التصدير وأدوات الضغط والهيمنة والتمرير على كافة المستويات.
في 2019 أنجزت جامعة أكسفورد مشروعًا بحثيًا رائدًا؛ حيث قام فريق مختص بالأنثروبولوجيا في الجامعة بتحليل الحسابات الإثنوغرافية للأخلاق من 60 مجتمعًا، تضم أكثر من 600000 كلمة من أكثر من 600 مصدر للوصول إلى ماهية القواعد الأخلاقية العامة التي تحكم تاريخ هذه المجتمعات، وأن هذه القواعد كانت تظهر بشكل متماثل في الثقافات عبر العالم، وتمر في مراحل معينة بفترات انحسار، وفي مراحل أخرى بمراحل بروز وتأكيد. وهذه القواعد هي: "ساعد عائلتك، ساعد مجموعتك، رد الجميل، كن شجاعًا، اذعن للرؤساء، قسّم الموارد بشكل عادل، واحترم ممتلكات الآخرين". تعتقد مختلف الثقافات – بحسب الدراسة – أن هذه القواعد الأخلاقية كان ينظر إليها دائمًا على أنها قواعد أخلاقية جيدة، في كل الثقافات التي تعرض إليها المسح الإثنوغرافي. بالتأكيد فإن الدراسة تحتمل الكثير من النقاش والتداول في شأن منهجها وخلاصاتها. ولكن نعتقد أن ثمة أهمية بالغة يمثلها منهج الدراسة. ذلك أن مسألة التتبع التاريخي وخاصة فيما يتعلق بالمسألة القيمية، من الممكن أن تساعدنا كمختصين في العلوم الاجتماعية في معرفة المحطات (المنعطفات) التي كانت سببًا في تحول مسار قيمة معينة، أو ضمور قيمة ما في جسد المجتمع. الأمر الآخر فإن القيم بمفهومها (السوسيولوجي) هي في عمومها وعاء جامع، تلعب الثقافة الاجتماعية دورًا في الانتقاء من هذا الوعاء ما يسهم في تماسك/ استقرار/ ديمومة الأنظمة والبناء الاجتماعي. ومن هنا فإن منظومة السياسات العامة التي تتوجه لمعالجة قيم اجتماعية معينة لابد أن تأخذ في الاعتبار ثلاثة أبعاد أساسية: (كيف تشكلت هذه القيم عبر تاريخ المجتمع؟ - الأهمية المحورية التي تشكلها هذه القيمة في البناء الاجتماعي – هل يمكن معالجتها/ تعزيزها من خلال تغيير السلوكيات العامة أم من خلال استنبات قيم أخرى وتأكيدها عبر السياسات العامة؟)
ما يحدث في الواقع أننا في بعض المواضع التي نتناول فيها المأزق القيمي/ التحول القيمي فإننا نتحدث إما عن ظواهر أو سلوكيات. ونحاول الولوج من خلالها إلى مسائلة القيمة. وهذا النهج بقدر ما هو نهج ينبنها إلى بعض المشكلات/ الظواهر الاجتماعية إلا أنه في حاجة إلى تأصيل أكبر، بمساءلة القيمة العامة التي تقف خلف هذا السلوك، أو تشكل هذه الظاهرة. نميل في هذا المقام إلى تعريف تالكوت بارسونز للقيم الاجتماعية، والذي عرفها كونها: "عنصر في نسق رمزي مشترك، تعتبر معيارًا، أو مستوى للاختيار بين بدائل التوجيه التي توجد في الموقف"؛ وعليه فإن دور العمليات الاجتماعية المختلفة هو توجيه الأفراد لتخير القيم المرغوبة التي تحفظ استقرار المجتمع وتماسك البنية الاجتماعية، وتحفظ عمليات الانتقال الاجتماعي عبر الأجيال. ولكن أين يكمن دور السياسات العامة في هذا الحالة؟ بمعنى كيف يمكن للسياسات العامة أن تتبنى عمليات "الإصلاح والتأكيد القيمي"؟
نعتقد أن أحد الأدوات التي يمكن استخدامها في سبيل ذلك هو مساءلة دورة القيمة عبر تطوير السيناريوهات. وهذا يرتبط بشكل أساس بتحديد جامع للقيم المرادة والمرغوبة، التي يعتقد المجتمع والدولة بضرورتها في الوقت الراهن وللمستقبل، هل نريد الحفاظ على سبيل المثال على قيم الأسرة؟ وأي أسرة في شكلها نريد للمجتمع؟ وما هي القيم الأسرية الأساسية التي نريد فعلًا أن تكون في بؤرة تركيز السياسات العامة؟ وينسحب ذلك أيضًا على قيم الدين والمهنة والتبادل الاجتماعي وسواها من أنماط الحياة المجتمعية. وبعد هذا التحديد يمكن تطوير سيناريوهات متكاملة لدورة القيمة؛ والفكرة هنا معرفة وتشخيص كل (السياسات – القوانين – السلوكيات العامة – المحتوى التداولي – مصادر تغذية القيمة – الأدوار الاجتماعية والمؤسسية – المحتوى التعليمي) المرتبط بتلك القيمة في تاريخيتها وراهنا؛ وذلك لتحديد ما يعيق إصلاح أو تأكيد تلك القيمة في سياقها المجتمعي. فالقيم هي اشتباكات سائلة في النسيج الاجتماعي لا يمكن الحديث عنها بمعزل وتصور أن عملية إصلاحها أو تأكيدها يمكن أن تأتي وفق النداءات العامة لأفراد المجتمع للتمسك بها أو استبدالها. وهذه الجزئية هي التي نعتقد من خلالها بضرورة وجود ما هو أشبه بحوار/ مختبر يركز على هذه المسألة. بحيث يمكن أن يصمم منهجية واضحة ويرسي حوارًا علميًا وفكريًا جادًا حول مسارات القيم، ويؤسس لتتبع تاريخي ومجتمعي للتحولات التي دفعت بصعود قيم معينة، أو تلك التي عطلت مسار قيم أخرى.
