كلام فنون: المواهب الموسيقية وتحديات الحاضر والمستقبل
النشاط الموسيقي الإبداعي واستمراره وتطوره يواجه تحديات عديدة لعل في مقدمتها الفكرة التراثية السائدة عند البعض بشأن «تحريم» الموسيقى والغناء، وهي فكرة قديمة لا تزال تعشش في رؤوس البعض. ولكن من المؤكد أن المجتمع لا يزال يمارس النشاط الموسيقي والغنائي منذ الأزل وسيستمر في هذا إلى يوم الدين، وقد حصل هذا في أشد الظروف السياسية قمعا وتنكيلا عند معظم شعوب الأرض، حيث كان أصحاب الرأي المتطرف يلجؤون دائما إلى القوة في فرض وجهة نظرهم.
ولولا حيادية النظم السياسية أحيانا، لكنا نقرأ اليوم في السير الذاتية لمعظم علماء وفلاسفة الحضارة العربية الإسلامية الذين اشتغلوا في الموسيقى إلى جانب أعظم الممارسين لها تنظيرا وممارسة أن حياتهم قد انتهت بالقتل على يد المتشددين والمتطرفين أو تم إجبارهم على التوقف عن ممارسة العلم الحقيقي. والكل يعلم في هذا السياق عن الفيلسوف والطبيب والموسيقي ابن سينا وتجاربه السبّاقة في علم النفس الموسيقي منذ القرن الحادي عشر الميلادي. وفي هذا الشأن يُعتقد أن آلة القانون وهي واحدة من أعظم آلات الموسيقى العربية والشرقية عامة كانت من ابتكار الفيلسوف والفنان أبو نصر الفارابي (ت. في القرن العاشر الميلادي). وكان قبل ذلك العصر اشتغل الفيلسوف والموسيقي أيضا أبو يوسف الكندي في تأسيس علم الموسيقى العربي الإسلامي في القرن التاسع الميلادي، ويعتقد كذلك أن صاحب علم العروض قد سبق الجميع وألف في علم النغم والإيقاع. ولكن الحمد لله أن الجميع اليوم يفخر بتراث هؤلاء العمالقة الذين صنعوا مع عدد كبير من علماء المسلمين والممارسين للغناء والموسيقى تلك الإنجازات النظرية والتطبيقية التي عم نفعها البشرية جمعاء، حيث وضعوا موسيقانا العربية وثقافتها العريقة في سياق العلوم والفنون العالمية عندما تغلبوا على مختلف التحديات وبشكل خاص حينما توفرت البيئة السليمة للعمل العلمي والفني.
إن أكثر المواقف صعوبة في هذا السياق أن نجد أبناءنا الطلبة في حيرة من أمرهم، ففي الوقت الذي يلقن بعض المعلمين هذا الطالب أن الغناء والموسيقى «حرام»، يأتي آخر وهو معلم لمادة التربية الموسيقية المقررة في المنهج الدراسي ويطلب تنفيذ عدد من الأنشطة في إطار العملية التعليمية. ومع أنني شخصيا مع تنوع الآراء حتى في المدرسة، ولكن أن يدعي معلم مدرسة أن الموسيقى والغناء حرام، ويلقن ذلك صغار الطلبة، فهذا في رأيي بعيد تماما عن أهداف التعليم المعاصر السائد في بلادنا ويتناقض معه، ويغرس رسالة خاطئة لدى الطلبة وكأن دولتنا الكريمة تسمح بالمحرمات في العملية التعليمية والتربوية.
بكل تأكيد لست شخصيا مع مصادرة أي رأي، فتنوع الآراء أمر حيوي لا ينبت إلا في البيئة السليمة والإيجابية، وعليه آمل أن يطرح المعلمون آراءهم للنقاش المفيد في هذه المسألة وربما مسائل أخرى ذات صلة في وقتها ومكانها الصحيحين وليس استغلالا لمكانتهم التربوية والتعليمية وتلقين التلاميذ رأيا متشددا وإهمال الآراء الأخرى التي تتعارض مع هذا الطرح.
لا يمكن أن نجد أمة عظيمة قابلة ثقافتها للحياة شرقا أو غربا، قديما ولا حديثا لم تصنع موسيقى عظيمة، فلا تهون الصناعات الإبداعية كالفنون والموسيقى حسب تسمية إخوان الصفا، إلا عند من أقفل عقله بنفسه. ومن المعلوم أن الموسيقى العربية المتقنة التي نمارسها اليوم تعود أصول قواعدها وموضوعها الأدبي إلى القرن الأول الهجري وكان منبعها في بلاد الحجاز وتحديدا المدينة المنورة ومكة المكرمة، حيث أقدس الأماكن الإسلامية على الإطلاق.
من هنا نأسف حقا أننا بعد قرون طويلة من المساهمة الفعّالة في تكوين هُوية وثقافة هذه المنطقة العربية والإفريقية والآسيوية واعتزازنا بكل ما أنجزته الحضارة العربية الإسلامية العظيمة لا يزال من يشد أبناءنا إلى ثقافة المقابر والجهل والظلام، ويحاول عبثا إبعادهم عن ثقافة التنوير والتعمير التي ترسخت منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام وتترسخ مرة أخرى منذ سبعينيات القرن العشرين بفضل من الله ثم قيادة بلادنا المستنيرة المعاصرة.
مسلم الكثيري موسيقي وباحث
