في ظلال الأسلاف.. عمان قبل الميلاد

18 أبريل 2023
رحلة بين دفتين
18 أبريل 2023

قسمتُ التاريخ العماني إلى ستة أطوار كبرى.. ثلاثة قبل الإسلام، وثلاثة بعده، وأقسّمه هنا إلى قسمين: أحدهما.. قبل الميلاد، والآخر.. بعده. الأول هو الأطول، بل لا يمكن مقارنتهما من حيث طولهما، فإذا كان الثاني ممتداً ألفي عام؛ فإن الأول حقب متطاولة تنيف على مائة ألف عام، منذ أن وطئت أقدام الإنسان العاقل أرض عمان، وهو يخرج لأول مرة من القرن الإفريقي عابراً نحو أصقاع الكوكب الأخضر. بيد أن القسم الثاني يتميز بأنه بدأ به التاريخ العماني المنظور، وهو أيضاً ينقسم قسمين: ما قبل الإسلام، وما بعده، الأول.. سِمَته الغالبة أنه أسطوري، وهو على قصره وأسطرته مؤسِّس للاجتماع والسياسة بعمان. أما القسم الإسلامي.. فقد اتسم عموماً بالتدوين التاريخي والمعرفي، وأصبح مسار الاجتماع العماني أكثر وضوحاً وترابطاً، وأقل أسطرة.

والتاريخ.. أحداث متسلسلة مترابطة؛ متقدمها سبب لمتأخرها، إلا أنه لعدم تقييد الأحداث يتفكك الترابط ويختل التسلسل، وتسقط أحداث وتتغير أخرى؛ زيادة ونقصاناً، حتى وإن دوّن بعد زمن؛ فإنما تلتقطه أقلام متباعدة لتوزعه في سجلات متناثرة، فلا يمكن قراءتها، إلا لمن أفرغ وقته لها، وكانت له قدرة على الربط بينها. هذا هو شأن التاريخ في كل بقاعه وأزمانه، حتى يقيظ الله مؤرخاً محكِماً لمنطق التاريخ، مدرِكاً لسيرورة وقائعه، فيتتبع الشواهد من بطون الكتب، وظهور الأوراق المتناثرة، وأفواه الناس، وما تفرق من وثائق، فيعيد بناء التأريخ بنظم أحداثه وسلك أيامه. وهذا ما حدث لعمان ذات التاريخ الطويل، فلم يكن يوجد كتاب سلس مسلسِل لأحداثها، حتى جاء عبدالله بن حميد السالمي (ت:1332هـ) فكتب «تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان» في العهد الإسلامي، ومهد له بما وقف عليه من روايات عن هجرة الأزد إلى عمان ووقائعهم مع الفرس كـ «يوم سلوت»، فأصبح تاريخ عمان ميسراً للقارئ، ومن أتى بعده وجد الطريق ممهداً، فاتخذه أساساً ومشى عليه، نعم؛ هو كأي مرجع قد يُتعقَب بالتصحيح والتعديل، والزيادة والنقصان، لكن له فضل السبق، وقد عجز اللاحق عليه أن يتجاوزه.

ذاك بالنسبة للقسم الثاني؛ فما شأن القسم الأول، وهو الأطول، والمؤسِّس؛ لأسبقيته؟ لقد كان معمى عن الأبصار، لعدم وجود بحوث فيه، وقد ذهبت آماد القرون بأوابده، وأخفى بطن الأرض بواقيه، ولم يكن هناك من دليل ظاهر يعتمد عليه، حتى بدأ علم الآثار يحرث أرض عمان، بحثاً عن جذور حضارتها بالتنقيب فيها، والربط بين ما حبل به بطنها وما تحمله على ظهرها. ولأن علم الآثار حي ينمو، ويملك أدوات للربط.. على المستوى المحلي؛ بين المكتشف من المواقع الآثارية، وعلى المستوى الخارجي؛ بين الحضارات التي سبقت إليها أيادي العلم، فكشفت عن كثير من مخزونها، وأظهرت كنوزها، كالحضارات: السومرية والأكدية والبابلية والفرعونية، فقد بدأنا نتلمس شيئاً من سير الأيام الخوالي التي مرت بها عمان، إلا أن التأريخ ظل نقاطاً متباعدة، لا ترسم خارطة للسير نحو المعرفة بمنطق الأحداث التي صنعت عمان، فمن طبيعة علم الآثار؛ أن الغالب عليه هو الكشف لا الربط، حتى يأتي عالم للحضارة فيعمد إلى ما كشف عنه الآثاريون فيبني من الأحداث الغابرة تأريخاً متماسكاً، وهذا ما قام به الباحثان سيرج كلوزيو وموريسيو توزي. فإن كان السالمي بـ«تحفة الأعيان» جعل التأريخ العماني في عهده الإسلامي مقروءاً؛ فإن كلوزيو وتوزي جعلا الحضارة العمانية القديمة مقروءة من خلال كتابهما «في ظلال الأسلاف»، وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب. جاء في تقديم جلالة السلطان هيثم بن طارق حفظه الله للكتاب: (إن هذا الكتاب بما يحويه من كنوز معرفية وحقائق أثرية وعلمية، يتيح المجال للمقارنة والدراسة المتعمقة حول الممتلكات الثقافية القائمة والمنقولة، والربط بين الحضارات، وهذا كله سيثري الساحة العلمية بمزيد من النتائج التي تعود بالنفع على الأجيال القادمة).

«في ظلال الأسلاف.. مرتكزات الحضارة العربية القديمة في عمان».. كتاب ينتمي لعلم الآثار أولاً، ولعلم الحضارة تالياً، وهذا ما يجعله مهماً، فبكونه كتاب حضارة؛ يكشف عمّا غاب عنا من جذور التاريخ، كنا لا نبصر منها شيئاً حتى وقت قريب، وبكونه كتاب آثار؛ يضمن قدراً كبيراً من العلمية. ومما يحسب لكتابة تأريخنا القديم؛ أنه لا توجد أساطير سابقة تحد من موضوعية البحث العلمي فيه، فالبُعد الأسطوري لتأريخنا العماني فترة محدودة وقع معظمها ما بين الميلاد والإسلام، وما كان قبلها فهو مظلم بغياب مادته، وما كان بعدها فهو مبصَر بتسجيل أيامه. والكتاب.. وضع المؤلفان مقدمته -والمقدمة عادة آخر ما يكتب من الكتاب- في 1 يونيو 2007م، وصدر مترجماً إلى اللغة العربية عن وزارة التراث والثقافة عام 2012م، ورغم مضي أكثر من عشرة أعوام على صدوره فإن من خلال اشتغالي بالبحث الحضاري؛ وجدت القارئ العماني قليل الاطلاع عليه، فضلاً أنه لم يدخل حقل التأليف ليكون مرجعاً للتأريخ العماني القديم، ولذا؛ اخترت هنا التعريف به.

إن اعتماد «في ظلال الأسلاف» مرجعاً لفهم تأريخنا أصبح ضرورياً، ولا يمكن تجاوزه، وسوف يعمل على إعادة فهمنا لعمقنا الحضاري الضارب في آلاف السنين، وسيعيد ثقتنا بالإنسان العماني القديم؛ وأنه هو الصانع للحضارة العمانية، ويخفف من حالة الاستلاب التي تعانيها ثقافتنا الاجتماعية، والتي ترجع كثيرا من عناصر حضارتنا إلى الأجنبي.

بالاطلاع على محتويات الكتاب نجد فصوله البالغة أحد عشر فصلا تستقصي الوجود البشري منذ ما قبل الإنسان العاقل؛ أي منذ حوالي مليون سنة، ثم تتّبع أولى خطوات الإنسان العاقل، مرورا بالعصر الذهبي للحضارة العمانية في الألفية الثالثة قبل الميلاد، والتي أسميتها طور التأسيس، ولقوتها وعمقها فإن العديد من أنظمتها باقية إلى عصرنا، وواصل الكتاب عرضه للحضارة العمانية إلى عشية الميلاد. نعم؛ طور الدولة الحديثة الذي نشهده أدى إلى تحولات كبرى عملت على اندثار كثير مما وصل إلينا من تلك العصور السحيقة، لكن لا تزال لدينا الفرصة لرصده وتحليله، وفهم تحولات عموم التاريخ العماني. والكتاب.. مزود بالكثير من الصور والرسمات التوضيحية التي تخدم مادته.

والكتاب.. جاء في فصول من وضع المؤلفَين كلوزيو وتوزي، وتحت معظم الفصول ترد «نافذة» أو أكثر، وهي بحوث لمواضيع تتعلق بالفصل الذي ترد فيه، ولكنها من وضع باحثين آخرين. وهذا مسرد بأهم المواضيع التي اشتمل عليها «في ظلال الأسلاف»؛ وهي: الفضاء الجغرافي والفرص المتاحة. البحث عن إنسان عمان. من الصيد المبكر إلى الالتقاط المتأخر. الرعاة الأوائل. التحول الكبير. مدافن ما قبل التاريخ. اقتصاد الروابي الصدفية خلال الألف الرابع قبل الميلاد. مجتمع عظيم يلوح دون عيون الأسلاف. تدجين الصحراء. أقدم الفخاريات في عمان. مدبسة مبكرة من الألف الثالث قبل الميلاد. التجارة وبداية الملاحة في المحيط الهندي. النحاس من مجان إلى بلاد الرافدين. إعادة بناء مركب العصر البرونزي المبكر. الملاحة والطرق التجارية في العصر البرونزي المبكر. الحضارة العربية المبكرة في أوجها. الانهيار والتحولات في فترة وادي سوق. النحاس في الألف الثاني قبل الميلاد. تطورات جديدة عشية التاريخ. التعدين والصهر في العصر الحديدي. آكلو السمك. وأخيراً؛ خصص المؤلفان الفصل الحادي عشر لـ«محافظة ظفار أرض اللبان».