"تاريخ موجز للفكر العربي".. أسلوب ساحر لمادة علمية للمؤرخ حسين مؤنس
تمتلئ المكتبات بملايين الكتب، سواء المكتبات العامة أو المكتبات عبر الشبكة العنكبوتية، وكثير من القراء يشكون آفة النسيان، وهي آفة عامة حتى عند كبار العلماء والأدباء. إلا أن بعض الكتب تترك في النفس والذاكرة أثرا ولو لسنوات عديدة. وذلك يعود – حسب ظني – إلى عدة أسباب: أولها سحر الكاتب وأسلوبه الذي يأخذ بالألباب، ثانيهما مادته التي يقدمها للقارئ.
ومن هذه الكتب التي سحرتني وأعجبني أسلوب كاتبها ومادته العلمية التي قدمها للقراء هو كتاب (تاريخ موجز للفكر العربي) للمؤرخ حسين مؤنس.
في بداية مقدمته، يحدثك الكاتب المؤرخ حديثَ صاحبٍ لصاحبه، يأخذك بالتي هي أحسن، وليس بالتي هي أخشن، يأسرك أسلوبه وتعامله معك كقارئ لكتابه، ويصرّح أن ما يكتبه هي مجرد آراء وليست عقائد لا يصح التراجع عنها "ولكنني أرجو من القارئ ألا يظن أن الآراء التي أسوقها هنا هي مبادئ أؤمن بها ولا أتنازل عنها. فهذه في الحقيقة آراء عامة مما يقع في الخاطر، ولا يصعب التخلي عنها إذا تبين خطؤها. إنها آراء أسوقها إلى القارئ راجيا منه ألا يغضب إذا لم يعجبه شيء، فأنا مستعد أن أتخلى عن آرائي وأغير منها، فإن الآراء ينبغي أن تكون قابلة للتغيير ولا معنى أبدا للتمسك بالآراء كأنها عقائد".
والظريف في مقدمة الكاتب أنه يشعرك بجمال الكتاب ولذته، وأنك ستعود للكتاب مرة ومرات، وهذا ما حدث معي شخصيا، فلا أستغني عن مطالعته بين فينة وأخرى؛ نظرا لما يحمله من أفكار ورؤى، تصلح أن تكون مناهج وقواعد ومبادئ يلتزم بها القارئ والكاتب في تعامله عبر قراءاته المتعددة، وكيفية تعاطيه مع مختلف الآراء؛ خاصة إن كانت ملتبسة ومعقدة ويكثر حولها الجدل أو تكون ضمن المسلّمات التي لا يمكن المساس بها أو التعرض لها بالنقد ولو كان بنَّاءً.
ويبيّن المؤرخ حسين مؤنس أن هدفه من هذا الكتاب أن يورد ما لديه من أفكار حول تاريخ الفكر العربي؛ الذي لم يكتب عنه كثيرا، وذلك عبر قراءاته المتعددة. وقد قارن ما لدى العرب من إنتاجات حول تاريخ الأدب العربي والفكر العربي، وأنها مختصرة ليست بالمطولة جدا.. كالذي كتبه جورجي زيدان وشوقي ضيف عن تاريخ الأدب العربي أو ما كتبه الألماني كارل بروكلمان عن تاريخ الفكر العربي.
وعندما تدخل مع الكاتب إلى كتابه سيأخذك إلى عالم الفكر العربي وتاريخه، وما حمله من تجاذب وصراع بين أهل الفكر وبين السلطة الحاكمة، وأن الغلبة الظاهرة هي للسلطة الحاكمة؛ كونها الأقوى من حيث الهيمنة والسيطرة على زمام الأمور. وهي غلبة وقتية، لا تلبث أن تزول بزوال تلك الدول. وسيظهر للقارئ أن البقاء كان للأفكار، وهي لا تموت، وإنما تدب فيها الحياة؛ لأن أصحابها ماتوا من أجلها.
وعادة عند شراء الكتب أو مطالعتها يقع القراء في فخ العنوانات البراقة والموضوعات المزخرفة، وهي في حقيقتها "يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا". وهو الحال عند كاتبنا هذا، فعنوانات موضوعاته براقة وجذابة إلا أنه صدق القارئ، فكان كل عنوان يحمل في طياته داخل الكتاب مضامين كثيرة ومعلومات وفيرة. ويكفي لبيان حقيقة هذه المعلومة مطالعة فهرس الكتاب، ومن ذلك – على سبيل المثال لا الحصر- هذه العنوانات: ( أنا أفكر، إذن أنا غير موجود. اثنان لا يجتمعان: رجل الفكر والطاغية. المفكرون في وادي عبقر والناس في وادي سقر. علم الكلام والطريق المسدود. درس من فقيه معتزلي مسيحي: مارتن لوثر. ابن حزم القرطبي: صرخة في سكون الليل... الخ). وهذا المميز عند المؤرخ حسين مؤنس أنه انتقى لموضوعات كتابه عنوانات براقة وجميلة، ناسبت المضمون، واستفاد منها القراء فعلا وقولا لا قولا فحسب.
نقطة أخيرة يمكن إضافتها عن الكاتب في كتابه هذا، وهو قول الحق ولو كان مُرًّا، ففي الكتاب من الآراء والأفكار ما تخالف ما اعتاد عليه كثير من الناس في كتابات المؤرخين والفكرين والعلماء، بل ما هو سائد. فيقف حسين مؤنس وقفة القارئ الناقد، وقفة المستنكر لكثير من الأحداث التأريخية التي تخالف مبادئ الإسلام، وتخالف منطق العقل. إذ يقول ما يراه صوابا مبرزا أدلته وحججه ومنطقه، مبتعدا عن الانفعال والعاطفة. فيضع المقصل على المفصل والنقاط على الحروف، ويمضي.
