ظل يسقط على الجدار: الكتابة بوصفها محاولة لفهم الأشياء
هناك عبارة كثيرا ما تتردد في الوسط الثقافي العربي -ولا تخلو من الصحة على أي حال- وهي أن «الناقد مبدع فاشل»، وهي عبارة مبنية على الاشتغالات الإبداعية لأكثر من ناقد، التي تأتي عادة باهتة، وليست في مستوى الكتابة النقدية لهؤلاء، وأظن أن السبب في ذلك هو أن المعرفة النظرية للناقد بأدوات الكتابة وآلياتها تؤدي به إلى محاولة تطبيقها على نصه الإبداعي بالمسطرة والفرجار، ما يحرمها -أي الكتابة الإبداعية- من أهم شروطها وهي الروح. فالكتابة دون روح هي مجرد كلام مرصوص إلى بعضه البعض، غير أن هذه القاعدة -إن جاز أن نعتبرها قاعدة- لها كثير من الاستثناءات، أذكر منها الآن منى حبراس، موضوع هذا المقال، التي تكتب في إحدى يومياتها: «أحببتُ النقد، وكرهتُ كوني ناقدة». صدر الكتاب الأول لمنى حبراس عام 2013م بعنوان «الطبيعة في الرواية العُمانية»، وهو توثيق لأطروحتها في الماجستير التي نالتها من جامعة السلطان قابوس، وحملت العنوان نفسه، ومنذ ذلك التاريخ، عُرفتْ منى حبراس في الوسط الثقافي كناقدة، وشاركت في الكثير من الملتقيات الأدبية والثقافية المحلية والعربية بهذه الصفة، بل وأكدتها بنيلها الدكتوراة في النقد من جامعة الملك محمد الخامس في المغرب عام 2019م، والحق أن من قرأ كتاباتها النقدية حول هذا الكتاب الإبداعي أو ذاك، أو هذه الظاهرة الثقافية أو تلك، يدرك أنها ليست بالناقدة التقليدية، لا من خلال زاوية تناولها للأعمال التي تدرسها، ولا من خلال لغتها السلسة البعيدة عن تقعّر الأكاديميين، ونظرياتهم، ولكن ليس هذا موضوع حديثنا الآن. موضوع حديثنا هو كتابها الجديد «ظلّ يسقط على الجدار» الصادر عن دار الرافدين العراقية بالتعاون مع الجمعية العمانية للكتاب والأدباء، والذي يقدم منى حبراس هذه المرة أديبة مبدعة تنظر إلى نفسها في المرآة فتسجّل أدق خلجاتها النفسية، وتراقب المحيطين بها بعين الناقد لكنها تكتب عنهم بروح الأديب، وتسجّل ما يشبه يومياتها مع الأشياء في بحثها عن المعنى، بل وتنظر إلى الكتابة نفسها نظرة أخرى مختلفة. ما الكتابة لدى منى حبراس إلا محاولة لتجاوز عجزها عن فهم الأشياء، «أدوّن الغموض الذي يكتنف الأشياء من حولي، حتى تنجلي أو توشك، أو لا تنجلي أبدا، ولكن الكتابة تبقيها في دائرة الضوء التي توسع من رقعة السؤال الذي يمثل أقصى درجات الحرية»، ولأن محاولة فهم الأشياء تبدأ من الطفولة، إذْ تأتي أولا في حياة أي إنسان، وبعدها كل شيء، فإن منى تبدأ منها، ساردةً لنا حكاية الفتاة الصغيرة التي وُلِدتْ ساعة وفاة أنديرا غاندي، رئيسة وزراء الهند السابقة، واكتشافها باكرًا متعة الوقوف طويلا أمام المرآة ومحاورتها كشخص آخر، ولماذا أحبت شخصية جودي أبوت الكرتونية التي لم تكن كــ«سالي» الطيبة الخنوعة طوال الوقت، وكيف تحولت وهي طفلة إلى «تاجرة» صغيرة رأسمالها أربعة ريالات لتبيع الحلويات والمأكولات الخفيفة لأقرانها من الأطفال قبل أن تكتشف أمها ذلك وينتهي الأمر بعلقة ساخنة ورعاف ومستشفى، ويمكننا أن نضيف: ندم الأم على ذلك. الندم هو الشعور الذي اختارته الكاتبة لمقاربة علاقتها الحميمة بأمها، فمنى تندم في كل الأحوال، «على كل تفصيلة لم تكن كما يجب، على كل تقصير غير مقصود»، على كل اتصال من أمها لم ترد عليه، على كل حب كان يمكن أن تمنحه بطريقة أفضل، ولعلها لهذا السبب، أي لكي لا تندم، وضعت أمها في مقدمة الشخصيات -أو على حدّ تعبيرها «الأرواح»- التي صنعت ذاكرتها، راسمِةً لها في القسم الثاني من الكتاب بورتريهات بديعة جعلت القارئ يقترب من عوالمها، ويحبها ويتوق إلى التعرف على من بقي منها على قيد الحياة. من هذه الشخصيات شقيقتها الراحلة عليا، التي عرفت من خلالها معنى الموت وهي لم تتجاوز الثامنة من العمر، وجدّتها التي لا تتذكرها إلا بأظافرها المخضبة بالأحمر، وجارتها ميمونة، التي كانت تقوم مقام الأم في غيابها، مقدمة خدماتها للجيران دون طلب أو انتظار مقابل، وأمها الأخرى أسما، ملجأها وإخوتِها في حال غضب الأم أو الأب، فـ«من دخل بيتها فهو آمن»، و«أسما العالي» التي اعتادت في صبيحة يوم عرفة أن تخطر في الحارة بثوب أبيض ناصع تخيطه خصيصا لهذا اليوم. هذا في المحيط الخاص، أما في المحيط العام فهي تخصّ الفنان عبدالكريم عبدالقادر بنصّ وجداني تقول فيه: إنها اكتشفت مع «الصوت الجريح» أن «المواساة ليست القدرة على التخفيف عن الحزين، وإنما في القدرة على الحزن معه، وعبدالكريم جريح بما يكفي؛ لأن يشاركنا أحزاننا جميعا»، كما تخصّ الفنانة منى واصف بنص آخر يسرد حبّ أمها الشديد لشخصية «أم جوزيف» التي أدتها الممثلة السورية في مسلسل «باب الحارة». وكما تحتفي منى حبراس بالأشخاص، فإنها تحتفي أيضًا بالأمكنة، فتتحدّث في القسم الثالث من الكتاب عن علاقتها بشارع 99 في المعبيلة الذي تسكن فيه، والمغرب البلد الذي أحبته وقضت فيه سنوات دراستها العليا، كما تتحدث عن مكان عملها السابق في وزارة التعليم العالي بين مقره القديم في روي، والجديد في مرتفعات المطار بالسيب، وتبوح كذلك بعلاقتها بالزمان، وقت الفجر تحديدا، الذي ظل مبعث دهشتها دوما، وموعدها المفضل للتأمل والمذاكرة والكتابة. كما تسرد مشاعرها تجاه الأشياء الصغيرة التي صنعت ذاكرتها، القلم الأحمر الذي ظلت تتحاشاه منذ طفولتها معتبرة إياه خاصا بالمعلمة فقط، والهدية التي رفضتها معلمتُها منها وهي طفلة، فجعلتْها ترفض الهدايا من تلميذاتها عندما صارت معلمة. ورغم أنها تعنون القسم الرابع والأخير من الكتاب بـ«الكتابة فنًّا للعيش» إلا أن هذا القسم يتحدث عن القراءة أيضا، من خلال سرد حكاية علاقتها بمعرض مسقط للكتاب، وكذلك بالفيلسوف المصري زكي نجيب محمود الذي تهديه الكتاب ككل. يستطيع القارئ أن يلمس بوضوح أن القراءة أهم لديها بكثير من الكتابة: تقول مثلا: «أستطيع العيش من دون الكتابة، ولا أشعر أن في الأمر خللا أو فداحة، لكنني لا أستطيع العيش بدون قراءة»، ولذلك فإنها عندما أرّقها هاجس ضعف البصر في أحد النصوص كان أول سؤال تبادر إلى ذهنها: «كيف سأقرأ؟» لا «كيف سأكتب؟». ومع هذا فهي ما زالت تكتب بغزارة وتنوع، وربما نستطيع أن نفسّر ذلك بحكاية سردتْها في أحد نصوص هذا الكتاب، عن زميل لها في جماعة الخليل للأدب عندما كانت طالبة في جامعة السلطان قابوس، حيث قال لها: «حددي ماذا ستكونين بعد أن تتجاوزي مرحلة كتابة الخواطر؟ أقاصة أم شاعرة؟» تعلق منى حبراس على هذا السؤال بالقول: إنها صُدِمت وتساءلت: «أيجب أن أكون واحدة من هاتين؟، ألا يكفي أن أكتب نصًّا تسميه أنت خاطرة!». لعلها لهذا السبب اختارت أن تضع على غلاف «ظل يسقط على الجدار» عبارة «نصوص» تاركة الباقي لنا نحن القراء، تقول: «تصيبني خضة من أولئك الذين يتجرؤون ويصفون أنفسهم بألقاب من قبيل شاعر أو ناقد. أزعم أن المتلقي وحده هو صاحب الحق في أن يسمي الكاتب كاتبا، والشاعر شاعرا، والناقد ناقدا». بعد سنين من صدمتها من كلام زميلها في جماعة الخليل ستكتب منى حبراس نصوصا كثيرة وتترك تسميتها لنا، تارة قصة، وأخرى مقال، وثالثة دراسة نقدية، ورابعة نصّ عابر للجنس، وخامسة يوميات، كل هذه التصنيفات الأدبية لا تعنيها، إنها لا تكترث إلا بالكتابة، التي تمارسها -كما تقول- كتدريب ناجع على فهم نفسها والحياة بشكل أفضل. |
