سيد قطب .. والقطيعة المنهجية
(سيد قطب.. فريد من نوعه، مستقل في تفكيره، وهو من طراز المفكرين الكبار، الذي ما كان يقول كلمة إلا ويتحمل تبعتها، ولا ينظّر لفكرة مقتنع بها حتى تصبح مبدأه الذي يضحي لأجله، فذهبت حياته وفاءً لمبادئه... إن سيد قطب عقل متحرك نامٍ، ولم يكن مستبعدا أن ينتقل بتفكيره بعد أن ترتفع عنه غمة العنف الذي وقع عليه وفيه، سواء من طرف خصومه، أو ما قام به هو نفسه ونظّر له، لمرحلة جديدة، تكون النفس فيها أهدأ، والتفكير قد بانت له تطورات الواقع، أو على أقل تقدير؛ حصول مراجعة حقيقية لما نظّر له)، هذا ما كتبتُه عن قطب في كتابي «السياسة بالدين» الصادر عام 2017م، وأجدني الآن ما زلتُ عليه.
لماذا الحديث عن قطب؟ لأن فكره لا يزال حاضرا بين المسلمين، يفعل فعله في تحريك رؤيتهم للدين والحياة، بغض النظر عن موافقتهم له أم مخالفته، فهو بقَدْرٍ لا بأس به ترك أثره عليهم.
قد يُتصَّور بأن الإخوان المسلمين وحدهم مَن اهتم بفكر قطب وتأثر به، وربما حصرهم البعض فيمن يسمون بالقطبيين؛ الذين انزلقوا نحو العنف، وشكلوا جماعات إرهابية، أو كانوا جناحا راديكاليا في العمليات الديمقراطية التي خاضوها في بلدانهم، أو تبنوا آراء متشددة في الأحكام التي يصدرونها، وقد عُرِف هؤلاء بـ«الصقور». في مقابل؛ الجناح الأهدأ في خطابهم، ويستعملون الدبلوماسية في طرح قضاياهم، وهم الذين عرفوا بـ«الحمائم». ولكن الواقع أكبر من ذلك، لقد تأثر معظم الفكر الإسلامي المعاصر بقطب، بل هو «عقل الإسلام السياسي»، الذي انبث في كل المذاهب الإسلامية، وستجد أقطابا فيها متأثرين به، فضلا عن أتباعهم. بل دُرِّست أطروحاته في مناهج التربية الإسلامية ببعض الدول العربية.
دراسة فكر سيد قطب.. لا ينبغي أن تقف عند حد فهم تيارات العنف التي ظهرت بين المسلمين، بل يجب أن تشمل جماعات الإسلام السياسي؛ بغض النظر عن انتمائها المذهبي، أو ممارساتها الاجتماعية. فقطب.. صاغ مرحلة فاصلة، والفكر الإسلامي ما بعده ليس هو ما قبله، ودراسته لا تقتصر على مرحلة بعينها منه -وهذا أيضا مهم في فهم تطور الأفكار في المجتمعات المسلمة- وإنما تشمل كذلك معرفة نفسية أجيال ما بعد قطب، والتي تحولت إلى نسيج اجتماعي، أصبح من الصعب تفكيكه. فبغض النظر عن الحكم عليه؛ لم يعد هذا الاجتماع ولا مزاجه النفسي صالحا للمرحلة القادمة من التحول الفكري والسياسي لدى المسلمين. فالإسلام السياسي برمته.. أدى دوره، ومن حقه أن يُدرَس للعبرة والعظة وفهم تطور الفكر الاجتماعي بتأثير الدين عليه فقط. وقد تحدثت عن انتهائه في مقال «مستقبل الإسلام السياسي»؛ بجريدة «عمان» بتاريخ: 14/ 12/ 2021م، وأنه قد بدأت مرحلة جديدة سميتها «السياسة الإسلامية المدنية»، ولكن هذا لا يعني أن معتنقي هذا التيار قد تخلوا عن أفكارهم، أو أن الزمن أفناهم، بل هم باقون كُثر. حتى مَن يعارض فكر قطب؛ أكثرهم تتلمذوا على كتبه، بمن فيهم كاتب المقال، والذي أنحو في رأيي تجاهه -فيما أزعم- سبيل الدارس لفكره بحياد، فقد درست معظم كتبه، ودرّست بعضها لمّا كنت معجبا بهذا الفكر. فأثر قطب ليس من المتوقع أن يزول قريبا، ولذا؛ نرى الجدل حوله، ما بين اتهام له ورفض لطرحه، وبين دفاع عنه وتمثل لفكره.
سيد قطب إبراهيم حسين الشاذلي.. مصري، ولد عام 1906م وأعدم 1966م، وكان إعدامه مثلبة في تاريخ التعامل مع الأفكار وتطورها. وقد عاش قطب مرحلتين:
الأولى.. اشتغل فيها بالأدب ونقده، ورغم سجال الردود بينه وبين مناقضيه في الطرح؛ إلا أنه لم يكن له تأثير كبير على الساحة الأدبية.
الثانية.. ابتدأت في النصف الثاني من أربعينيات القرن الميلادي المنصرم، وظهرت كأنها فجأة، تحول قطب فيها من الأديب الناقد إلى المفكر الساخط، شكّل تحوله قطيعة حادة لماضيه الأدبي، حتى نعته علي شلش (ت:1993م) بـ «التمرد على الأدب»، واتخذ هذا الوصف عنوانا لكتابه عن قطب. وصاحب قطيعته تلك قطيعة في المنهج، فبعد أن كان رهين أقلامه؛ تحوّل ناشطا في الفكر الإسلامي، وعمل على تطبيق ما يؤمن به، وكان أقرب مدخل له جماعة الإخوان المسلمين، التي تبنت أطروحاته وعملت على نشرها، لكن ما أسباب تبنيه القطيعة منهجيا؟
قبل ذكر الأسباب؛ عليّ أن أجيب عن بعض الأسئلة الممهِدة: ما القطيعة التي نظّر لها قطب، والتي نجح في الالتزام بها، حتى انتشرت بين المسلمين؟ هي ترك كل «فكر أرضي»، والتزام «الفكر الإلهي» المتمثل في القرآن؛ بحسب فهمه، وهذا ما جعل تيارا عريضا من المسلمين يقلّد منهجه، لكن كيف تمثّل قطب هذا المنهج؟ وكيف تمثّله المتأثرون به؟
تمثل قطب منهج القطيعة.. باعتبار أن كل فكر غير ملتزم بشرع الله الوارد في القرآن -بحسب فهمه- ضال منحرف، وهو سبب الشرور التي تعاني منها البشرية. ونادى برجوع المسلمين إلى ما كانت عليه الجماعة المؤمنة زمن النبي، وقد رأى بارقة أمله في جماعة الإخوان المسلمين. لم يكن منهج قطب مقاطعة الوضع البائس الذي يمر به المسلمون فقط، وإنما قطيعة شاملة للفكر الإنساني، بدون استثناء، قطيعة معرفية ومنهجية واجتماعية وفلسفية ومسلكية. وكان يرى نضوب العالم من سلامة المعتقد واستقامة السلوك، فسعى إلى تأسيس «جماعة مؤمنة»، أهداها كتابه «معالم في الطريق».
لقد طبّق تيار الإسلام السياسي هذه القطيعة المنهجية الكبرى؛ كل جماعة منه بطريقتها. فسيد قطب ذاته؛ تمثلها بـ«نظرية الحاكمية لله»، والتي طرحها قبله أبو الأعلى المودودي (ت:1979م)، وسارت عليها جماعات العنف المعاصرة، وهذه أخطر تمثّل لها. في حين؛ مارسها الإسلام السياسي؛ من كل المذاهب، بمحاولة الوصول إلى الحكم؛ إما عبر صناديق الانتخاب أو الانقلاب العسكري أو الثورة الشعبية. لكن قطيعة قطب صارمة، رفضت تمثّل ممارسات الأسلاف ما عدا العهد النبوي حتى منتصف خلافة عثمان بن عفان. أما هذا التيار فلم يقطع صلته بأسلافه، بل انتصر لمعتقداته وأخذ تجاربه بقوة.
أما الأسباب التي أدّت بسيد قطب إلى تبني القطيعة؛ فهي أنه:
- متهيئ نفسيا لها بممارسته النقد الأدبي، فالنقد عموما يكشف الحالة المنتقَدة بغية التحول عنها، إما بتحسينها أو تركها، ونحو ذلك.
- جاء بعد أن أعاد محمد عبده (ت:1905م) قراءة التراث الإسلامي، التي أثارت جدلا بسببها أقصي عن الإفتاء، لكنه ترك أثرا كبيرا على الفكر الإسلامي، وأصبح معظم المسلمين بعده يعتقدون أن المشكلة ليست في النظام الإسلامي، وإنما في تفكير المسلمين وسلوكهم.
- شهد ثورة 23 يوليو 1952م، التي كان فيها أحد أبرز ملهبي حماس الشعب بكتبه؛ وفي مقدمتها «العدالة الاجتماعية»، بشّر فيه بنظام جديد يقوم على العدالة، التي لم يكن يراها إلا في التشريع القرآني، مما جعله يثور على نظام الثورة ذاته، لأنه لم يجد فيه طموحه.
- عايش صعود الأنظمة الشمولية كالشيوعية والنازية والبلشفية، والنظام الرأسمالي الأممي، وكلها أنظمة استعمارية عنيفة، مما جعله موقنا بقطيعة الأنظمة العالمية التي تبث الشرور في الأرض.
- يرى انحراف المجتمع وفساد حال الناس، وأن في ذلك ردة عن الإسلام وانتكاسة للجاهلية، فسعى إلى تأهيل جيل مسلم بمنهج جديد، وإعادة بناء المجتمع الإسلامي.
ختاما.. مهما كانت النظرة إلى سيد قطب، فإن فكره لا يزال مؤثرا، ومن الضروري قراءته وتفكيكه، ووضع خارطة طريق فكرية؛ تُجنِّب المسلمين العنف الذي سقطوا في وحله، وتفتح لهم أبواب التمكين للمستقبل، على أساس المشاركة الوطنية والأخوة الإنسانية، وليس الأدلجة العقدية.
