هوامش و متون :رسائل رجل محكوم عليه بالإعدام
أعاد ديوان الكاتب الراحل اليمني سليم المسجد «تمتمات الغضا والرماد» الذي صدر مؤخرا عن دار جفرا ناشرون وموزعون» الأردنيّة، وقامت بتدقيقه ومراجعته: الزهراء صعيدي ووداد أبو شنب، الرحيل المأساوي للشاعر، ولم أكن أتخيّل فرحته بصدوره وهو حيّ ولو كان وراء قضبان أمضى خلفها السنوات الأخيرة من حياته، التي اختتمت بشكل تراجيدي في 11 من ديسمبر 2022م، عندما أقتيد لساحة الإعدام قصاصا، قبل ذلك لم أكن أعلم أن الرسائل التي كان يبعثها الشاعر تصل إليّ من السجن، حيث كان ينتظر تنفيذ الحكم متّهما بقضية جنائية جرت عن طريق الخطأ قبل ثلاث عشرة سنة، قضاها في السجن، يتساءل السيّاب «كيف يحسّ إنسانٌ يرى قبره» لكنّ سليم المسجد لم يكن مكترثا كثيرا، بل انصرف للكتابة وتنظيم الدورات التدريبية في سجنه، في عروض الشعر، والقافية، وعلامات الترقيم، ووضعها في كتب، كما كشف منشور له تضمّن وصيّته قبل ثلاثة أيّام من تنفيذ حكم القصاص به، لذا أخفى الخبر عن الجميع، باستثناء صفوة مقرّبة منه من الأدباء اليمنيين، فقد كان مشغولا بشيء آخر، يزرع سنبلة محبة في كل يوم تشرق فيه الشمس على الأماكن المحيطة بسجنه، رغم أنه لم يرها وجها لوجه، تمثّلا للحديث الشريف: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم سنبلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى يغرسها فليغرسها»، وظلّ سنوات يزرع هذه السنابل مقاوما عتمة السجن، وبياض الكفن الذي كان كل حول يصغر على مقاس جسمه النحيل.
وحين راجعتُ تلك الرسائل، أدهشني حبّه للحياة، والعمل، والنشاط، فقد كان يكتب الشعر والنقد، ويدير تحرير مجلة «نقش»، مطبقا على الأبد، ليقدّم ترجمة عملية للقول المأثور «اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا».
بدأتْ معرفتي بالراحل سليم المسجد حين كتب لي أنه يعد ملفا عن الدكتور عبدالعزيز المقالح لنشره في أحد المجلات الثقافية العربية، متمنيا مشاركتي به، فرحبت، ولم أتأخر في إرسال المقال المطلوب، ونشر في مجلة «نقش» التي كان يدير تحريرها، وبعث لي صورة من المقال المنشور، فكان وقع ذلك طيبا في نفسي، واستمر التواصل بيننا، ومرة طلب مني ترشيح أسماء مبدعة عمانية مهتمة بالكتابة الجديدة.
وقبل تنفيذ الحكم بثلاثة أيام، فوّض في منشوره الأخير الأستاذة وداد أبوشنب بطباعة ونشر أعماله الأدبية التي تنوعت بين الشعر (تمتمات الغضا والرماد) والقصة (كائنات زئبقية) والرواية (سحاب في بلاد الضباب) والرسائل (ثلاث رسائل لأجلكم) و(الآن سأقرأ عليكم قصتي) والنقد (الشعر العمودي، أشكال القصيدة ومظاهرها) وعناوين أخرى: الدورة التدريبية في أساسيات المقالة الأدبية والدورة التدريبية في العرض والتقفية، والدورة التدريبية في علامات الترقيم في الكتابة العربية، وفي تعليق له على منشور لأحد أصدقائه (زكريا الكندري) نشر يوم تنفيذ الحكم كتب «لا قلق.. طمأنينة وارفة.. وروح تحلق في الفراديس فكونوا بخير أيها الأنقياء».
ثم ردد بيت أبي القاسم الشابي:
جف سحر الحياة في قلبي الباكي فهيا نجرب الموت هيا
ولم تنجح مناشدات أصدقائه لأولياء الدم بالعفو عنه (فمن عفا وأصلح فأجره على الله) (الشورى:40) ولم تلن قلوب أولياء الدم، وقبول الدية، اهتداء بقوله تعالى: (ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) متناسين أن أجر العفو والصفح عند الله عظيم
وكما تساءلتُ في جلسة التأبين التي أقامها المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح في أربعينية الراحل سليم المسجد بإدارة المخرج اليمني حميد عقبي: كم نحن بحاجة إلى إشاعة ثقافة التسامح والصفح والغفران؟ فالواقعة حدثت قبل سنوات بعيدة، وندم عليها أشد الندم، وأمضى سنوات شبابه خلف القضبان، وخلال تلك السنوات طوّر ذاته، وقرأ ووضع كتبا، وصار إنسانا فاعلا في الحياة الثقافية اليمنية والعربية، ألم يكن بالإمكان تخفيف الحكم على الأقل، وتركه ينتج وهو في السجن؟ ما الذي سيحدث في الكون لو أن الجسد الذي ووري في حفرة بقي في السجن يتنفس هواء الحياة، ويكتب وينتج ويبهجنا برسائله وهو خلف القضبان؟
ولماذا لم يتم التحرك بشأن العفو عنه إلّا قبل يومين فقط، بعد أن تم تحديد موعد تنفيذ الحكم؟
من الواضح أن الراحل، كأيّ شخصيّة تراجيديّة، تذهب إلى مصيرها المحتوم طواعية، مضى إليه مؤمنا بأن هذا قضاء الله، وحين يحين أجل الإنسان فلا رادّ لقضائه، فلم يشغل العفو باله، مديرا ظهره لكلّ شيء سوى الكتابة حتى آخر نفس، كما كشفت منشوراته، ورسائله الأخيرة قبل تنفيذ الحكم.
