التوثيق الاستقصائي الموسوعي.. تاريخ «الحوقين» أنموذجا
عمان.. عريقة في الحضارة، لا تنضب منها المعرفة، سواء بإنتاجها والإبداع فيها، أو بنبش كنزها الدفين، ونظم حروفه في سلك العلوم، وفق المناهج العلمية، وإعادة نشره ليسفر عن شمس وجهه. إن كل بلد في عمان هو بنفسه مكتبة ضخمة؛ علينا فتح أبوابها للبحث، وإذا كانت الحركة العلمية نشطة في العصور السابقة؛ فإننا نشهد عصرها الذهبي. ومن أهم ما عرفته عمان منذ قدم تدوينها هو التأليف الموسوعي، حيث وصلت أجزاء بعض الكتب إلى العشرات بل قاربت المائة. المقال.. يستعرض نوعاً فريداً من التأليف، وهو ما أسميه بـ«التوثيق الاستقصائي الموسوعي» من خلال «تاريخ نيابة الحوقين» للباحث المتمكن بدر بن سيف الراجحي، الصادر هذه الأيام، عن مركز ذاكرة عمان.
التوثيق.. تسجيل الشواهد والأدلة؛ سواء أكانت مادية أم غير مادية، مكتوبة أم عيّنات، تسجيلاً علمياً؛ بجمعها من مواضعها، ثم تبويبها وتصنيفها، ثم تحليلها وعرضها، بمنهج علمي دقيق، يبينه الباحث في مقدمة عمله. «انظر: مقدمة الكتاب».
والتوثيق.. يقوم على الوثيقة، وبدونها ينتفي، فهو لا يقوم على تحليل احتمال الحدث، وأقصى ما يمدك به الاحتمال هو الترجيح في بعض الجوانب المتعلقة بالوثيقة؛ كزمن صدورها، أو ممن صدرت، ولا يكون إلا بشواهد معاضدة ومسوغ علمي. ولذلك؛ التوثيق عمل مضنٍ، يبذل فيه الباحث جهداً كبيراً، وقد ينفق له أموالاً حتى يحصل على مراده من الوثائق، ويقضي فيه الأيام الطوال بلياليها، التي قد تصل إلى السنين. ومن الوثائق ما لا يحصل عليها الباحث إلا بالشفاعات الاجتماعية والتوجيهات الرسمية. ذلك؛ لأن التوثيق عمل تأسيسي، يتيح للباحثين من بعده المادة الأولى لعلوم عديدة ذات صلة بالوثيقة كالتاريخ والمتاحف والسياسة والاجتماع. فالموِّثق.. يقيم على كاهله الكُتّاب أعمالهم، وجهده يقطع عنهم النصف الأول والأشق من الدرب. ولذا؛ على الباحث في مجال التوثيق أن يتحلى بصبر لا ينفد وطول نفس لا ينقطع، وهذا ما لمسته لدى مؤِّلف هذا العمل الفخم، ولا غرو؛ فهو القاضي الذي راضته الأيام؛ صبراً وحكمةً.
أما الاستقصاء.. فهو تتبع كل الوثائق الممكنة، التي تدخل في أعمال الباحث؛ بعد أن يحدد منهج البحث، وزمانه ومكانه. ويكون على سبيلين: أحدهما.. تتبع الوثائق، فالبحث -مثلاً- عن المعاملات التجارية في الحوقين خلال القرن الخامس الهجري؛ يلزم الباحث عدم ترك أي سبيل محتمل قد يجد فيه وثيقة داخلة في مجال بحثه، حتى ينقطع رجاؤه من وجودها. وثانيهما.. أن يتتبع كل ما يتعلق بالوثيقة التي حصل عليها؛ كتاريخها وكاتبها وأطراف عقدها، وعلاقتها بغيرها من الوثائق والأحداث. كل ذلك؛ سار عليه الكتاب، والذي ابتدأ بتأريخ الحوقين منذ ما قبل التأريخ حتى نهاية الثمانينات الميلادية الماضية. بيد أن الراجحي لم يعرض كل ما حصل عليه، لأسباب يراها موضوعية.
والموسوعة.. عمل علمي جامع لكل المداخل المتعلقة بمجال البحث. وهي تختلف عن «التأليف الموسوعي»، فهذا الأخير أكثر أنواعاً منها، وهي أدق علمياً منه، فواضعو الموسوعة مسؤولون علمياً وأدبياً عن صحة المعلومات التي يوردونها، إذ الموسوعة لا تحتمل الآراء الشخصية، بل تصر على وجود الدليل. أما «التأليف الموسوعي» فله مناهجه العديدة، والتي ليس من الشرط التقيّد فيه بضوابط الموسوعة الصارمة، وهو يتسع للآراء الشخصية، وللتحليل الذي يحاول أن يسد به الباحث الثغرات الناتجة من فقدان الوثيقة.
وبعد؛ فلنأتِ إلى شيء من التفصيل، ولندع «تاريخ نيابة الحوقين» يتكلم عن نفسه. الكتاب.. موسوعة بثمانية أجزاء، الأول.. 360 صفحة، في (التعريف العام بالنيابة، ومصادرها المائية)، والثاني.. 508 صفحات، في (التاريخ الجيولوجي والأثري والعمراني، والتاريخ السياسي والاجتماعي والتجاري)، والثالث.. 480 صفحة، في (التاريخ العلمي والتراجم والتقييدات والصور القديمة)، والرابع.. 366 صفحة، في (الرسوم الصخرية والشواهد والكتابات الأثرية)، والخامس.. 396 صفحة، في (الفصل التمهيدي، ووثائق المعاملات«1»)، والسادس.. 366 صفحة، في (وثائق المعاملات«2»)، والسابع.. 430 صفحة، في (وثائق المراسلات والفتاوى والوصايا والتركات والزكوات والزواج والصلح والأحكام القضائية)، والثامن.. 480 صفحة، في (الوثائق المطولة والمنوعة والخارجية). وهذا عمل ضخم؛ جاء في 3386 صفحة، ويضم 3296 وثيقة، قسّمها الباحث إلى 17 عنواناً «ج1،ص26-27». وقد استغرق العمل سبع سنوات، منذ بداية عام 2016م حتى نهاية 2022م.
عرّف الباحث التاريخ بأنه (العلم الذي يدرس أحداث الماضي البشري وآثاره، دراسة علمية تقوم على البحث والتثبت والتحقق والملاحظة والمقارنة والتجربة والاستدلال والاستقراء، وذلك؛ لفهم الوقائع التاريخية في إطار الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية، التي أحاطت بها وشاركت في تكوينها) «ج1،ص18». ولأني قرأتُ «تاريخ نيابة الحوقين» كله، وأسهمتُ في (المراجعة اللغوية والموضوعية)، فأجده يدخل في «التوثيق الاستقصائي الموسوعي»؛ أكثر من كونه تأريخاً بحسب التعريف أعلاه. فالتاريخ فيه يخدم الوثيقة، وليس العكس. ولذا؛ كان النصيب الأوفر فيه للإحصاءات وصور الوثائق.
وما قام به المؤلف من استقصاء واسع للوثائق بكل السبل الممكنة، ابتداءً؛ بتتبع الرسمات والكتابات الصخرية، وانتهاءً؛ بالصور الفوتوغرافية، مروراً؛ بالمخطوطات وزيارات المواقع والمقابلات الشخصية، تجعل من عمله تأسيساً لكل مَن سيكتب عن تاريخ نيابة الحوقين، أو ما يتعلق بها من علوم ومعارف، يقول الراجحي: (وغالب مادة هذا الكتاب لم تكن المصادر من المصادر العلمية التقليدية المعروفة المتمثلة في المطبوعات بشتى أنواعها، التي تتميز بسهولة الوصول إليها، فهذه لا تحتل سوى نسبة قليلة بين باقي مصادر الكتاب، بل كانت الغلبة لمصادر لم يكن سهلاً الوصول إليها، لطبيعتها النادرة التي لا تجد لها نظيراً أو توثيقاً) «ج1،ص22».
الكتاب.. كشف عن جوانب مخفية من تاريخ هذه المنطقة العمانية، منها: وفرة الوثائق التي حصل عليها الباحث، وهذا دليل على مخزونها الوفير الذي تتمتع به عمان، فيما لو جمعت ونشرت لكانت مادة مهمة في دراسة تاريخ عمان وتفاعل اجتماعها، ولربما أعادت بناء تصورنا لجوانب منه. اللغة المستعملة في الوثائق، واستظهار تطورها على مدى التاريخ العماني، لاسيما؛ المصطلحات العمانية، وتتبع دلالاتها الاجتماعية. الحضور القَبَلي الكثيف والمتعدد الذي سكن الحوقين وتوابعها، حيث يجد قارئ الكتاب العديد من القبائل والألقاب الأسرية التي ربما يعرفها أو يعرف مكانها لأول مرة، وهذا مفيد في تتبع الحركة الإثنولوجية في عمان، وتأثيرها الثقافي والسياسي والاجتماعي. الكشف عن العلاقات المتبادلة بين نيابة الحوقين وخارجها، فقد أورد الباحث الكثير من الوثائق التي رصدت الحركة الاجتماعية كعقود الزواج والوصايا، والعلاقات السياسية كالمراسلات بين المشايخ ورجال السلطة، والعقود التجارية كصكوك البيع والشراء.
وكأي عمل موسوعي ضخم؛ لا يمكن أن ينفّذه شخص واحد بنفسه، بل يستلزم فريقاً للعمل أو أكثر يساعده، وهذا الذي قام عليه «تاريخ نيابة الحوقين»، حيث تطالعنا صفحاته الأولى، بقائمة (المراجعة اللغوية والموضوعية) والتي ضمت 11 شخصاً، وقائمة (الدعم الفني) وبها 49 شخصاً، بالإضافة إلى قائمة (أصحاب الوثائق والخزائن الخاصة)، وقائمة (المقابلات الشخصية).
ختاما.. أثبت هنا ما كتبتُه تقريظاً للكتاب، وغرّد به المؤلف في حسابه بتويتر بتاريخ: 19/ 2/ 2023م: (البحث والتوثيق.. هما أساس المعرفة وعليهما تقوم صروح العلم، لاسيما؛ علم التاريخ. يأتي عمل الباحث الفذ بدر بن سيف الراجحي الموسوعي «تاريخ نيابة الحوقين» مثالاً على التأسيس المعرفي لتاريخ إحدى المناطق العمانية التي شهدت تفاعلاً حضارياً منذ فجر الحضارة العمانية حتى عصرنا، فهو بحق يُشكّل مصدراً للمواد الوثائقية التي نقرأ منها تاريخ الحوقين بولاية الرستاق وتفاعلها مع المجتمع العُماني أولاً والمجتمعات الخارجية ثانياً، مما يجعل الدارس للتاريخ العماني -بل ولجوانب من التاريخ الإنساني- لا غنى له عن هذا السِفر القيّم).
