نوافذ.. وليد الشعيلي والمعنى الروحي للأدب

25 فبراير 2023
25 فبراير 2023

ألحّ عليّ الصديق عبدالعزيز الفارسي -رحمه الله- وأنا أقرأ كتاب «المعنى الروحي للأدب»؛ الإصدار الجديد لوليد الشعيلي، ليس فقط لأنه حاضر في الكتاب في أكثر من موضع، بل لأنه - أي عبدالعزيز - الوحيد من الكتّاب العُمانيين الذي استطاع القبض على جوهر شخصية الشعيلي في سطر وحيد من قصته «الرائحة» المنشورة في آخر مجموعاته القصصية «رجل الشرفة، صياد السحب». وقبل أن أَذْكُر هذا السطر أُذِكّر بأن وليد دأب منذ سنين، عندما يحّل الأول من كل شهر ميلادي على إرسال شذرة كتابية منتقاة مما قرأ من كتب أو شاهد من أفلام في رسالة واتسب جماعية لأصدقائه يسميها «همسة»، كان آخرها في الأول من فبراير الجاري: «لا تقسُ على نفسك بشأن أخطائك الماضية. تعلم منها».

يُخبرنا السارد في قصة عبدالعزيز بمعرض حديثه عن تمكن مخترع هندي في كندا من إضافة ميزة نقل الروائح عبر الهاتف إلى الميزة المتعارف عليها وهي نقل الصوت، أنه نتيجة لذلك «سيستبدل وليد الشعيلي همساته الكتابية التي يبعثها أول كل شهر للأصدقاء بروائح صُحارية متعددة مختلفة». هذا كل ما كتبه الفارسي عن الشعيلي في قصته المتجاوز عدد كلماتها 1400 كلمة، لكنه رغم ذلك تمكّن من القبض على روح الشعيلي بهذه الكلمات المفتاحية: الهمسات الكتابية، الأصدقاء، الروائح، صُحار، التعدد، والاختلاف، إنها بالضبط وليد كما يظهر لنا في كتبه العديدة التي يقوم أغلبها على فن الشذرة، والتقاط المُدهِش في الحدث العادي، وسرد الأحلام اليقِظة، وإرسال الرسائل المقتضبة للأحياء والأموات، بدءًا من «القادمون والمغادرون»، و«قطار دائخ في الظلام»، ومرورًا بـ«جفنا الليل أو لعبة لا تنتهي»، و«مواجع فقاعات الشيشة»، و«على طابوقة ينتظر موعدًا»، وليس انتهاء بـ«قطار خرج من السكة»، الذي كتب في آخر صفحاته: «هذا آخر كتاب أكتبه. كل مرة أقول ذلك، وأعود لأكتب غيره، ربما لأنه يتضح في كل مرة أنني لم أقل ما أريده بعد».

وبالفعل، لم يقل وليد ما يريده بعد، فها هو ينشر كتاب «المعنى الروحي للأدب»، الصادر هذه الأيام عن دار الرافدين بالتعاون مع الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء، والذي يعرب في مقدمته عن رغبته في تحبيب الأدب في قلوب وعيون الناس قدر الإمكان وما استطاع لإيصال ذلك سبيلا: «عليّ الآن الإشارة لدور الأدب والقراءة وللجوانب الروحية والفاتنة في أنواع كتابية شتى، روح الشيء ودواخله، المعنى الروحي للأدب»، متبرمًا من بعض النقاد المتخصصين الذين لا يستمتعون بالكتابة الأدبية حتى وإن كانت مذهلة الوصف والعبارة، بسبب تركيزهم على التقنيات الكتابية ونوع البنية أو تعدد الرواة أو الأسلوب أو إيمانهم بالشكل الكتابي التقليدي، مشبهًا هذا النوع من النقاد بالنحوي الذي «لا يستمتع أحيانا ببعض المحاضرات والكتب كون تركيزه منصبّا على الإعراب وجودته»، وهو تبرّم سبق أن أبداه في كتابه «مواجع فقاعات الشيشة» الصادر عن الانتشار العربي في بيروت عام 2017م على هيئة سؤال: «ماذا لو كان هذا الكون مجردًا من كل شيء؟ مجرد هباء وصراخ على الفاضي؟» ثم يضيف متهكِّمًا: «وهذا يشبه النقد في عُمان»!.

ينظر الشعيلي إلى الأدب على أنه «الجمالية والقوة والرقصة الروحية التي يمكن بها الهروب من كل قبح وخراب العالم وبؤسه»، وأنه «عودة حقيقية إلى الذات والهدنة مع أنفسنا، إلى الإنسان القوي داخليا وسط كل هذه الهشاشة، دعوة إلى الجنون العذب». ويؤكد أنه ليس ضد المناهج النقدية التي تدرس الأدب، فهي مهمة وضرورية، «لكن هنالك جوانب روحية وحسّية أخرى» في تناول الأدب وتعاطيه وتلقيه، لذا نجده يلتقط جماليات فيما يقرأ ربما لا يعيرها الآخرون التفاتا. من هنا يقدم قراءاته «الانطباعية» لكتابات أصدقائه العُمانيين: عبدالله حبيب وصالح العامري، وهدى حمد، وبشاير حبراس، وزهران القاسمي، وفاطمة الشيدية، وحسين العبري، وحمود الشكيلي، ووليد النبهاني، ومحمود الرحبي، وزوينة الكلبانية، وبدرية الشحية، وغيرهم، ولا ينسى أن يلتقط شذرات مهمة عن الشعر والقصة والرواية والنقد الأدبي لكثير من الأدباء والنقاد.

في الأول من سبتمبر 2019م اختار وليد الشعيلي أن تكون همسته التي يرسلها لأصدقائه عبارة الكاتب والصحفي الأمريكي كريستوفر مورلي: «هناك نجاح واحد، وهو أن تتمكن من قضاء حياتك بطريقتك الخاصة»، وأظن أن هذه العبارة تنطبق تمامًا على وليد، في الحياة، وفي الكتابة أيضا.

سليمان المعمري كاتب وروائي عماني