نوافذ.. عقلية التحذير من الكتب
مع اقتراب معرض الكتاب ينشط محبو القراءة في العادة في الترويج للكتب الجديدة، وإعداد قوائم الكتب التي يُنصَح باقتنائها من المعرض للتسهيل على محبي المعرفة من الباحثين عن كتب تستحق القراءة، وبموازاة ذلك تنشط أيضًا تيارات مؤدلجة فكريا ليس فقط للترويج لكتبها المفضلة، بل للتحذير كذلك من كل ما لا يتوافق مع أيديولوجياتها مما تَعُدُّها «كتبًا مفسِدةً للعقول والأخلاق والعقيدة» إلخ من التوصيفات المجحفة التي لا أصل لها من الصحة، في وصاية واضحة على القارئ الذي هو في رأيها لا يفهم وينبغي تنبيهه لأخطار الكتب المحدقة به.
مناسبة هذه المقدمة تغريدة في تويتر، تُدُووِلتْ في اليومين الماضيين من أحد المنتمين إلى هذه التيارات، يدعو فيها بمناسبة اقتراب معرض مسقط الدولي للكتاب إلى «تجنُّب» ثلاثة أنواع من الكتب؛ كتب الفلسفة لأنها -حسب قوله- «أفلست وتجاوزها الزمن»، والروايات الأدبية التي هي في رأيه «كلام فارغ لا ينمي ثقافة، ولا يشجّع على خلق»، وما وصفها بـ«كتب نقد الإسلام» -يقصد طبعًا الكتب التي تناقش أو تنقد بعض أفكار التيارات الإسلامية- لأن مؤلفيها ليسوا سوى «ببغاوات تردد كلام الملحدين» على حد وصفه.
ولأن هذا الرأي يمثّل شريحة لا بأس بها في المجتمع، ولها تأثيرها على أتباعها من الذين يولونها ثقة مطلقة، فإن الرد عليه لا يكون فقط بدعوة أصحابه إلى احترام عقول القراء وأفهامهم وعدم فرض الوصاية عليهم، ولكن أيضًا بتوضيح تهافت الحجج التي يسوقونها للتحذير من الكتب التي لا يفضلونها. فكتب الفلسفة على سبيل المثال تعين قارئها على التفكير النقدي السليم، وتأمل ما وراء الظواهر وأسبابها عوِضَ التسليم بها كقدر مقدور، وصولا إلى اتخاذ موقف من هذه الظواهر مبني على العلم والمعرفة وإعمال العقل، دون الحاجة إلى وسيط يخبر القارئ، أن هذا الأمر جيد وذاك سيئ. تساعدنا الفلسفة على التفكير الحرّ لا الاتباع الأعمى لقواعد أو تقاليد بالية وضعها آخرون لم يرزقهم الله النظر إلا بعين واحدة، فما الذي يضير مثل هؤلاء في التفكير الحر؟!.
أما الزعم أن الرواية «كلام فارغ لا ينمي ثقافة» فلا يمكن أن يصدر إلا ممن لم يقرأ في حياته رواية جيدة واحدة، وإلا فإن «وظيفة الرواية الأساس هي إنتاج المعرفة» كما يخبرنا ميلان كونديرا الذي هو واحد من أهم روائيي العالم. ليست الرواية مجرد حكاية تُسرَد فيتسلى قارئها، وإنما منظومة ثقافية كبيرة تهدف إلى جعل القارئ يفهم الحياة والوجود على نحو أفضل، وكل ذلك يتأتى بأدوات الرواية من لغة وشخوص وأحداث وزمان ومكان، فلا يعود قارئ الرواية الجيدة هو نفسَه بعد قراءتها، ومن هنا نجد أن عالِم نفس كبيرًا كسيجموند فرويد يقول عن روايات دستيوفسكي إنه لا يكاد ينتهي من بحث في النفس الإنسانية حتى يجد الروائي الروسي الكبير قد سبقه إليه في رواياته، ونجد أيضًا الفيلسوف البريطاني برتراند راسل يقول: «عندما أشرع في كتابة موضوع فلسفي فإنني أعود إلى الروايات الممتعة، قمة آمالي أن أكتب أشياء تشبهها، وأن أشيع النور والمعرفة في كل سطر أكتبه، وألّا أكون غامضا».
بقي موضوع الكتب التي تناقش أفكار التيارات الدينية،والتي يُدلِّس صاحب التغريدة فيصفها بـ«كتب نقد الإسلام»، فنقول فيه: إن النقاش في الأمور الدينية، عقدية كانت أو فقهية، هو أمر طبيعي، بل إننا مأمورون به، ولا ينبغي الخوف أو التوجّس منه، وعندما يبدي المرء رأيه في اجتهاد أحد علماء الإسلام، حتى وإن كان بالاعتراض عليه، فإن هذا لا يعني أنه اعتدى على الإسلام، بل مارس حقًا أصيلًا منحه إياه الإسلام نفسه، بأن يجتهد ويُعمِل فكره وعقله مثلما اجتهد ذلك العالِم، وهو بذلك يضمن أجرًا واحدًا على الأقل إن لم يكن أجرَيْن. وإذا كان القرآن أمرنا بمجادلة مَنْ لا ينتمون لديننا بالتي هي أحسن، فمن باب أولى أن يكون ذلك في مجادلة إخوتنا في الدين.
خلاصة الكلام أقول للقارئ الشغوف الذي ينتظِر معرض الكتاب كل عام ليقتني كتبًا جديدة: اقرأ ما يحلو لك، فلن يمر كتاب في عقلك دون أن تستفيد منه، حتى وإن كان سيئا، ولا تستمع إلى الآراء التي تفرض وصايتها عليك، فليس من قَرأ كتابًا ووعاه كمن اكتفى بالسماع عنه من بعيد.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
