هوامش ومتون :رائحة الورق الآسرة

15 فبراير 2023
15 فبراير 2023

إذا كان العالم يتمدّد، ويصبح أكثر سعة عندما نقرأ كتابا جديدا، كما يرى أحد المفكّرين، مثلما يتّسع إذا كتبنا نصا جديدا أو رسمنا لوحة، أو أصغينا إلى معزوفة موسيقية آسرة، كما يتهيّأ لنا، فإن الكاتب إدغار آلان بو يعود «في اللحظات المظلمة إلى الكتب» لكي يجد الضوء، كما يقول، وقبل أن نقرأ أعمال إدغار آلان بو، كنا قد نقلنا من سبورات الدرس بحروف مرتبكة عبارة مختزلة هي: «العلم نورٌ والجهل ظلام»، وكثيرا ما أحسسنا بالنور الطالع من كرّاساتنا المدرسيّة، وهو يفتح لنا عالما جديدا، ويوما بعد آخر، توثّقت علاقتنا بالكتب، فمددنا البصر إلى ما هو أبعد من المناهج المدرسيّة المقرّرة، بمساعدة بعض المعلّمين الذين كانوا يشجعوننا على المطالعة الخارجيّة، فالتهمنا ما وقعت عليه أيادينا من كتب ومجلات ملوّنة موجّهة للأطفال، ومن هناك تدفّقت ينابيع الضوء الذي غمر عوالمنا الصغيرة، ذلك النور هو الذي جعل الإنسان يعيش على الأرض «أكثر من حياة واحدة» بتعبير الكاتب عباس محمود العقاد، بل أسهم في استعادة حريته التي سلبها منه ظلام الجهل، ليس فقط في معناها المجازي، بل الواقعي، ففي البرازيل، كما قرأت، تسهم مطالعة الكتب في تخفيض سنوات العقوبات المقرّرة على المساجين بواقع 48 يوما من كل عام للمستمرّين بخطة موضوعة للقراءة، والعملية ليست عشوائية، بل تخضع لضوابط، فإدارة السجن تمنح السجين الراغب بالقراءة 4 أسابيع لقراءة كتاب وبعد الانتهاء منه تطلب منه كتابة تقرير عنه، بعد ذلك تحوّل التقارير التي يكتبها السجناء إلى لجنة مختصّة لتقرّر مدّة التخفيض، فالقراءة كفيلة بإعادة تأهيل الإنسان إن حاد عن جادّة الصواب لتعيده إلى مساره الصحيح، وحين نقرأ فإننا نتنعّم بعصارة عقول الفلاسفة، والمفكّرين، والعلماء، والأكثر تجربة منّا في الحياة، «الأدب هو عقل غيرك تضيفه لعقلك» هذا ما قاله الجاحظ الذي يقال إنه في شبابه كان يبيت في دكاكين باعة الكتب بعد أن يعطي أصحابها أجرا معيّنا، ليقرأ، فقرأ في خلواته الطويلة تلك عيون المؤلّفات، ولغزارة علمه كان يستطرد كثيرا في كتبه، فيتنقّل بين موضوعات شتى، فينتقل القارئ معه في جولة ممتعة من حيث إن القراءة متعة عقلية، وشفاء لعلل العقول، بل إنّ بعض البحوث التي أجريت في الغرب توصّلت إلى أن القراءة نجحت في شفاء ما عجز عنه الطب، فأنقذت الكثير من المرضى، تقول الكاتبة التركيّة اليف شافاق «الكتب غيّرتني، الكتب أنقذتني، وأنا أعلم أنها ستنقذكم أيضا» مثلما داوت الأشعار جراح قلب قيس بن الملوح، كما صرّح في قصيدته التي يقول فيها:

فما أشرف الأيفاع إلّا صبابةً

ولا أنشدُ الأشعارَ إلّا تداويا

وإلى جانب بناء الإنسان، يبقى للقراءة فضل بناء المجتمعات البشرية، وتنويرها، منذ بداية معرفة الإنسان للكتابة في العصر السومري، والتدوين، ونقش الحروف المسمارية على الحجر، حتى اختراع الورق، ودخول التطور التكنولوجي الذي جاء لنا بالكتاب الإلكتروني.

وخلافا لما يشاع، من أنّ الكتب الإلكترونية نحّت الورقيّة جانبا، فإن عصر الورق لم ينتهِ، فما تزال الأنظار تتجه نحو معارض الكتب، وما يزال القرّاء يبحثون عن الزاد الثقافي، والفكري، ويبحثون عن جديد عالم الكتب، وما تزال المطابع تشكو من كثرة العمل وضغط المؤلّفين، والناشرون يصولون ويجولون في سوق الكتب، رغم شكاويهم المستمرة عن ارتفاع أسعار الورق، وكلف الطباعة، والشحن، والأحبار، فمعارض الكتب تمثّل عافية ثقافيّة، وها هو معرض مسقط الدولي للكتاب يعود مجدّدا، بعناوين جديدة، ومنصّات جديدة، وأعياد جديدة، ونعود إلى الكتب، وأسئلة القراءة، والفعاليّات الثقافيّة المصاحبة، والجلسات الفكريّة الحوارية، وحفلات التوقيع، ولقاء الوجوه التي اعتادت معارض الكتب أن تجمعها من مؤلّفين، وناشرين، ومثقّفين، وقرّاء، وهذه من حسنات المعارض التي تمثّل أعيادا ثقافيّة، ورغم الحضور الفاعل للكتاب الإلكتروني، نبقى نشمّ في المعارض رائحة الكتاب الورقي الآسرة.