لماذا المنتدى الاجتماعي؟

11 فبراير 2023
11 فبراير 2023

لا تنحو هذه المقالة نحو مزيد من التأكيد على ضرورة تفعيل دور البحث الاجتماعي (استراتيجيًا) في المرحلة الراهنة من فعل التنمية وسياق المجتمع في عُمان، بل تسعى لبحث الموضوعات/ الثيمات الاجتماعية التي نعتقد أنها ستكون مؤثرة في حركة المجتمع العُماني خلال الآجال الجيلية الراهنة (15-30 عامًا القادمة). في هذه المساحة تناولنا عبر عام كامل عددا من الأفكار والقراءات الاجتماعية ولعل أهمها: ضرورة المختبر الاجتماعي، وضرورة وجود السياسة الاجتماعية، وأهمية الضبط المنهجي والأداتي لقياس حالة التغير الاجتماعي في المجتمع العُماني. وخلال العام ذاته أخذت (المسألة القيمية) حيزًا موسعًا من النقاش لدى المجتمع في عُمان؛ سواء كان عبر تركيز القيادة السياسية على أهمية النظر فيها، أو عبر المحتوى الإعلامي الذي سخر حيزًا - لا بأس به - لمناقشتها تخصصيًا وعموميًا، أو عبر حيز النقاش العام سواء عبر منصات التواصل الاجتماعي، أو عبر بعض الفعاليات والأحداث من الندوات والمحاضرات التي نظمت في أوقات متفرقة.

في تقديرنا هناك أربعة اتجاهات ستكون الأكثر تأثيرًا في حركة المجتمع في عُمان خلال متوسط الـ 20 عامًا القادمة؛ أولها الاتجاه المرتبط بالقضية القيمية، وهذا الاتجاه يعكس مدى قدرتنا على الإجابة على سؤالين رئيسيين؛ الأول: هل نحن مجتمع يتجه نحو مزيد من حالة الفردانية؟؛ ستشكل الإجابة دلالة مهمة على تخيل شكل المجتمع في عُمان خلال العقود المقبلة؛ ذلك أن مزيدًا من الفردانية يعني انتصارًا للقيم الذاتية ومزيدًا من (غياب المعنى/ المعايير) للقيم الجمعية؛ ويعني ظهور العديد من الظواهر والمشكلات التي تبنى بقناعة أن الفرد باتجاهاته/ تفضيلاته/ تفسيراته/ منطقه/ محددات تفكيره سيكون محورًا للفعل الاجتماعي دون الأخذ في الاعتبار ضرورة اتساقه واتزانه مع الحالة الاجتماعية العامة بقواها ومؤثراتها وقيمها. إن أهم الأدوات التي يمكن أن تجيب على هذا السؤال هي المسوح الوطنية للسلوك، شريطة أن تكون متعددة multilateral surveys ولا تجرى عبر المؤسسات الحكومية وحدها، وإنما تشتغل فيها أكثر من مؤسسة كمراكز الفكر شريطة تصميم مسوحات تتبع السلوك، وتتقصى المواقف، للكشف عن طبيعة القيم الكامنة وراءها وتحليلها، ومعرفة مدى تمركزها نحو الفرد، أو اتساقها مع السياق المجتمعي العام. يمكن من خلال (المعاينة العمومية) أن نقول إن هناك بعض الظواهر المجتمعية التي أصبحت تحركها هذه القيمة، ولكن يبقى منطق العلوم الاجتماعية مؤكدًا على أن القياس وتعددية الأدوات هي السبيل لتأكيد الفرضيات والبناء عليها. أما السؤال الثاني في هذا الاتجاه: فهو هل ستعمل السياسات الاجتماعية على إعادة الاعتبار للدور المحوري للأسرة، لا يمكن اليوم القول بأهمية العودة إلى الأسرة، دون أن تكون كافة السياسات الاجتماعية موجهة/ مبنية/ مصممة على أساس التعاضد/ التكامل/ التضامن الأسري. ونعني هنا إلى أي مدى تجعل تلك السياسات أفراد الأسرة في حالة من الإعلاء لقيمة التكامل مع أسرهم في مختلف النواحي، وإلى أي مدى تستطيع سد الفجوات أمام أي أسباب محتملة للخلاف/ المشكلات الأسرية التي قد تنشأ نتيجة (أوضاع معيشية - سلوكيات ومعتقدات - بيئة اجتماعية محيطة ومؤثرة).

أما الاتجاه الثاني المؤثر على حركة المجتمع في عُمان في تقديرنا فهو إلى أي مدى تعمل السياسة الاقتصادية الراهنة على مزيد من الاستقرار والتمكين لوضع الطبقة المتوسطة (فئات الدخل المحدودة)؛ هذا السؤال يجيب عليه اتجاه سياسات التشغيل والحماية الاجتماعية المستحدثة بشكل أساس؛ مزيدًا من جهود تشغيل القوى العاملة الوطنية؛ وتقليص فترات البحث عن عمل؛ ووجود مزيد من الاستقرار للعاملين في الوظائف ذات الأجور المتوسطة والدنيا؛ وتعزيز مزايا الحماية الاجتماعية بناء على نهج دورة الحياة المتكاملة؛ بالإضافة إلى وجود المبادرات الفعالة والمستدامة للحماية من تقلبات السوق بما فيها الضغوط التضخمية؛ يعني مزيدًا من الاستقرار للطبقة المشار إليها. وهناك يمكن تقييم فاعلية السياسات في كل العناصر السابقة ومراجعتها وتقديم التقويم اللازم لها بشكل دوري؛ حتى تتضح حالة الاستقرار لأحوال هذه الفئة؛ كونها قاطرة الإنتاج والحركة المجتمعية.

هناك اتجاه ثالث محوري سيؤثر على حالة المجتمع في عُمان خلال السنوات المقبلة يتصل بطبيعة السياسة السكانية؛ هل الكتلة السكانية الحالية مفيدة للاقتصاد، وهل تقع ضمن حيز (القدرة على الوفاء بمتطلباتها من خلال أجهزة الفعل التنموي والخدمي)، وهل تتسق مهارات ومعارف ومستويات تعليم الكتلة السكانية الحالية مع مستهدفات إنتاجية العمل والعمالة المراد الوصول إليها في الخطط والاستراتيجيات الوطنية، هل نحتاج لزيادة هذه الكتلة قطاعيًا أم مكانيًا، وكيف ستتحكم أولويات النموذج التنموي الراهن بما فيها تمكين المحافظات نحو مزيد من اللامركزية الاقتصادية - الإدارية في شكل ومسارات حراك الكتلة السكانية الحالية. والسؤال الأهم: هل تبنى السياسات القطاعية الحالية وفق اعتبارات دقيقة لحالة النمو والتغير الديموغرافي والسكاني في سلطنة عُمان. في تقديرنا فإن حالة الديموغرافيا يجب أن تكون في قلب السياسة التنموية، ووجود سياسات عامة مبنية على استدراك التغير الديموغرافي هو ضامن رئيسي لعدة اعتبارات: أهمها قدرة الفعل التنموي على الوفاء بالاحتياجات العامة، وكفاءته في رفع مستويات الرضا المجتمعي عن الخدمات، واستباقيته في توقع ما ينشأ من احتياجات نوعية/ فئوية/ ظرفية. أما الاتجاه الرابع الذي نشير إليه، فهو سؤال النظام التعليمي بمعناه الشمولي وجدواه الاجتماعية؛ وسؤال التعليم تتفرع منه أسئلة محورية: هل يدعم نظام التعليم الحالي المرونة المجتمعية؟ هل يُكسب الأفراد فرصا واضحة للانتقال عبر قطاعات الإنتاج بطريقة أكثر كفاءة ومرونة؟ هل يمكن تشخيص القيم العامة التي ترسخها عمليات النظام في المخرجات؟ وهل يتسق مع بناء الفكر الاجتماعي العام الذي تتطلبه عمليات التنمية الوطني ومتطلبات النموذج التنموي الراهن؟. ما نعلمه على وجه اليقين أنه من السهل طرح الأسئلة حول الحالة الاجتماعية؛ لكن حين تكون تلك الأسئلة موجهة نحو مناطق التأثير الكبرى في حركة المجتمع فإن ذلك - حسب تقديرنا - يعني بالضرورة مزيدًا من الحاجة إلى نقاش وطني (اجتماعي) ممنهج وهو ما ندعو إليه في إيجاد (منتدى اجتماعي)؛ حيث يمكن لهذا المنتدى أن يبدأ بدراسات تشخيصية موسعة في المجالات والعوامل الأكثر تأثيرًا على حركة المجتمع في عُمان، ثم تطرح نتائج تلك الدراسات والتحليلات في سياق (منتدى وطني جامع) يخرج بسياسات عامة هدفها في المقام الأول تحديد التدخلات والإجراءات اللازمة للتأهب للمتغيرات الاجتماعية المطروحة. إن وضع الافتراضات وجعل الظواهر الاجتماعية محل التفنيد متعدد الرؤى والاختصاصات في تقديرنا أصبح مطلبًا ملحًا، والأداة المثلى لذلك إنما تتجسد في بحوث جادة وتحليلات تأخذ بأفضل المنهجيات، ولا يكتفى عند حدود خلاصاتها ونتائجها العامة، وإنما تأخذ حيزها من النقاش والمراجعة والتنفيذ القطاعي والتخصصي.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان