نوافذ.. أحمد بن النضر. لغزٌ يبحث عن حل

04 فبراير 2023
04 فبراير 2023

لطالما قرأنا وسمعنا عن النهاية المأساوية للعالِم العُماني أحمد بن النضر صاحب الكتاب الشهير "الدعائم"، وهي حكاية يتناقلها المؤرخون والفقهاء العُمانيون أبًا عن جد منذ عشرات السنين، ومختصرها أن هذا العالِم كان يعيش في زمن أحد ملوك النباهنة ويُدعى خردلة بن سماعة بن محسن، وكان حاكمًا ظالمًا، وبلغ به الظلم أنه "كان يأخذ من سبع نخلات نخلة، ويسقي أمواله بماء العباد، ويأكل أموال المساجد والمدارس والمقابر، ويأخذ نصف مهر المرأة من العاجل إذا تزوجت، وإذا تطلقت خاصم في الآجل"، وحين تزوجت ابنة أخت ابن النضر طالب الملك بنصف المهر، فرفض العالِم الجليل الاستجابة لطلبه، فما كان منه إلا أن أحضره إلى قصره، وأمر جنده بإلقائه مكتفًا من كوة قصره شديدة العلو، فمات، في نهاية تذكرنا بنهاية سينمار صاحب المثل الشهير. ولم تنته الحكاية عند هذا الحد، بل أحرق خردلة كتب ابن النظر ومصنفاته، وضاع منها الكثير.

هذه الحكاية بتفاصيلها العجيبة نسفها مؤخرًا الباحث العُماني النابه سلطان بن مبارك الشيباني في كتابه الجديد "ابن النضر: لغز يبحث عن حل" الصادر في طبعة رقمية هذا العام (2023م)، متتبِّعًا سيرة هذا العالِم وما كُتِب عن حياته من معلومات في المصادر التراثية العُمانية والمغربية، وكذلك الشروح الكثيرة لكتابه "الدعائم"، وأهمها شرح محمد بن وصاف النزوي؛ الذي وإن لم يعاصر ابنَ النضر إلا أنه عاش في عهد قريب من عهده، كما يقول الشيباني.

يُلمّح الباحث إلى أن ترجمة ابن النضر المتداولة في الكتب التراثية العُمانية هي من "تأليف" الشيخ يحيى بن خلفان بن أبي نبهان الخروصي الذي كتبها في فترة يحددها بما بين النصف الثاني من القرن الثالث عشر ومطلع القرن الرابع عشر الهجريَيْن، وقد اقتبس الإمام نور الدين السالمي طرفًا من هذه الترجمة في كتابه "تحفة الأعيان" دون تصريح بمصدرها.

أول ما يُلفِت الشيباني في هذه الترجمة أنها ورغم طولها "تخلو من تصريح بزمان ابن النضر، فلا ذكر فيها لعامٍ بعينه، ولا حتى إلى قرن من القرون، مكتفية بالقول إنه كان في زمان السلطان النبهاني خردلة بن سماعة، وإن أول إمام نُصِّب بعد مقتل خردلة كان محمد بن غسان"، يقول الشيباني: "ولا ندري من خردلة ولا بن غسان! فلا نجد فيما بين أيدينا من مصادر ذكرًا لخردلة، والمؤرخون العُمانيون يذكرون الإمام محمد بن أبي غسان (وليس محمد بن غسان) ويذكرون أخباره مطلع القرن السادس الهجري، وإن صح أنه المعني كان خردلة من أهل القرن الخامس. وبناء على هذه تكون ترجمة ابن النضر كُتِبتْ بعد زمانه بأكثر من ثمانية قرون"!.

بعد التواريخ والأشخاص يتَتّبع الشيباني المصادر التي اعتمدها كاتب سيرة ابن النضر وهي كتب "خِزانة الأخبار"، و"بهجة الأبصار" و"مصباح الأحاديث" ويصفها بأنها "غير معروفة عند أهل عُمان، وبلا أسماء مؤلفيها، ما عدا الأخير المنسوب إلى الشيخ جابر بن عبدالله الإزكاني، والذي يصفه الشيباني بأنه "مجهولٌ لا يُعرَف"، ويضيف إليها أن أسماء الأعلام الواردة في تلك الترجمة من جدّ ابن النضر المباشر عبدالله بن أحمد، ومرورا بمعلمه مبارك بن سليمان بن ذهل، وليس انتهاء بخردلة نفسه، وأسماء كثيرة أخرى، لا ذكر لها في أي مصادر أخرى تتبعها الشيباني، مؤكِّدًا أن حضور ابن النضر في مصنفات القرون الخمسة من القرن السادس وحتى العاشر للهجرة كان مقرونًا فقط بكتاب "الدعائم" دون ذكر أي شيء من سيرته تلك. أما كتاب "الخل والإصابة" لشارح "الدعائم" محمد بن وصاف فيُستفاد منه أن ابن النضر عاش في النصف الأول من القرن الخامس الهجري.

ويخلص الشيباني في نهاية بحثه الشيق إلى أن ابن النضر لم يشهد عصر ملوك بني نبهان، فضلًا عن التصادم معهم. وهو الأمر الذي يمكن معه الاستنتاج أن خردلة بن سماعة ليس سوى شخصية وهمية من نسج الخيال، وأن ابن النضر لم يُقتَل بتلك الطريقة الشنيعة كما يُتداوَل. لكن الاستنتاج الأهم هو أن كثيرًا مما نتلقاه عن تاريخنا العُماني كمُسلّمات، هو بحاجة إلى تمحيص ودراسة وإعمال فكر، وهو أمر يحتاج إلى باحثين نابهين من طينة سلطان الشيباني.