هل تكلم الصنم؟
مازن بن غضوبة السعدي.. بحسب الرواية؛ هو أول مَن أسلم من أهل عمان، له سيرة يسيرة موضعها الدرس التاريخي، وبغض النظر عن التحقيق فيها؛ فإنه لا يمكن التسليم بقصة إسلامه، والتي شكلت علاقة عمان بالإسلام ونبيه الكريم، دون تمحيصها. كتبتُ منذ حوالي عشرين عامًا رسالة بعنوان «هل تكلّم الصنم»، ناقشت ما قُدِّم حولها من أوراق في «ندوة مازن بن غضوبة السعدي» التي أقامتها «وزارة التربية والتعليم والشباب» عام 1990م، ومع أن الأوراق المقدمة سَلَّمت بالقصة، إلا أن شكًا خفيًا -وأحيانًا ظاهرًا- في ثبوتها خامر بعض الباحثين. لقد حالت الظروف حينها دون نشر الرسالة. وامتد الأمد، وطلبها بعض الباحثين، واستعانوا بها في بحوثهم، ثم كثر طلبها، ورأيت أن نشرها يحتاج لإعادة صياغة، وهو ما لا يتسنى لي هذه الأيام لزحمة الأشغال، فأجملتها في هذا المقال من دون إخلال بفكرتها.
قصة إسلام مازن.. جاءت أول مرة إلى التدوين العماني عند سلمة بن مسلم العوتبي المتوفي في القرن الخامس أو السادس الهجري، متأخرة عن حدثها بحوالي خمسة قرون، والتي استقاها من مصادر غير عمانية، يقول الفقيه سالم بن حمود السيابي (ت:1993م): (ولا يخفى عليك أيها القارئ الكريم؛ ونحن نأخذ القصة من رواية الشيخ الحلبي، كان ينبغي أن يأخذها هو وأمثاله منا نحن، ولكننا أهملنا حقوقنا، بعدما ضاعت عندنا نسأل غيرنا). أدرك مقصد السيابي من التأسف، وهو عدم اهتمام العمانيين بتاريخهم، ولكن هذا يؤكد أن الرواية وافدة إلى حقلنا العماني، وعند غياب الوثيقة من محل الحدث؛ فالشك هو سيد الموقف. نعم؛ قد يكون لها إشارات عند أبي بكر ابن دريد (ت:321هـ)، إلا أنه عاش خارج عمان وتثقف بغير ثقافتها، ومصادره من خارج حقلها المعرفي.
الرواية عمومًا.. لا تأتي مجردة عن سياقها الزماني والمكاني. فقصة إسلام مازن.. زمانيًا؛ تعكس التفكير السابق على الإسلام، حيث كان الناس يعتقدون بأن الأصنام آلهتهم التي تصرّف نفعهم وضرهم، فهي تعود بالمعتقد إلى الوثنية. ومكانيًا.. لم تنفرد عمان بنسبة هذا التصور إليها، فقد كان هذا شأن بعض مناطق شبه الجزيرة العربية، حيث يعتقد الناس حينها أن الأصنام تكلمهم، ولكن لم نسمع مَن ينسب ذلك إلى أرضه على سبيل التمدح، وكأن الراوي أراد أن يقول بأن العمانيين لا يزالون واقعين تحت وهم تصورات ما قبل الإسلام. ومع ذلك؛ هذا ليس كله قادحًا في الاجتماع العماني، ففيه ما يرضي الضمير بعقد الصلة بين أهل عمان والنبي الخاتم. كما علينا أن نتفهم ضرورة إيجاد لحظة مؤسِّسة للمعتقد، والتي تحتاج غالبًا إلى تسويغ غير معقول، وهذا فارق جوهري بينه وبين الإيمان الذي ينبني على الفطرة المنبثقة من سنن الله في خلقه. وهذا لا يمنع من تمحيص تلك اللحظة، بل هو الذي ينبغي أن يصير إليه التحليل التأريخي، لقراءة تطور المجتمع فكريًا، وهو ما نحن بحاجة إليه في حقلنا المعرفي. فاللحظة الأولى لنشأة القصة، ثم نقلها، ثم استقرارها في الضمير الاجتماعي، ثم نقدها، كل ذلك وضع طبيعي، يعكس حيوية في حركة المعرفة بالمجتمع، وتطور أساليب التفكير فيه.
مما يواجه قارئ هذه الرواية لغتها التي تبدو عليها الصنعة، فهي لا تشعرك بأنك أمام متكلم عن قضيته بسجيته، بل هي لغة خرجت مخرج التصنع، فجاءت بأسلوب مسجوع متكلّف، ظهر فيها أسلوب القرون المتأخرة عن «جاهلية العرب» التي عرفت بفصاحة اللسان وبلاغة التعبير وجيشان العاطفة. فقد جاءت القصة بسجع بارد، غابت عنه حرارة الدفقة الأولى لمن يتطلع إلى الدخول في الدين الجديد. (قال مازن: فعترنا عنده ذات يوم عتيرة؛ أي ذبيحة، فسمعت صوتًا من الصنم يقول: يا مازن، اسمع تسر، ظهر خير وبطن شر، بعث نبي من مضر، يدين بدين الله الأكبر، فدع نحيتًا من حجر، تسلم من حر سقر).
شتان بين قصة إسلام ملكي عمان جيفر وعبد ابني الجلندى، التي تماثل الواقع بتجلياته، حيث الإيمان يتفاعل مع النفس، فيدعوان قومهما للإسلام فيسلمون، ويدخلون في مفاوضة مع الفرس بين إسلامهم أو خروجهم من عُمان، وتسفر النتيجة عن عدم إسلامهم، ثم إخراج العمانيين لهم، حركة يمليها منطق الحياة وسنن الله في خلقه. وبين قصة إسلام مازن الناشزة عن واقع الحياة، فضلًا عن مخالفتها للطبيعة العربية، تظهر فجأة ثم تختفي أيضًا فجأة، دون أن نعرف تأثيرها على المجتمع. ويكفي أن تصف رجلًا من أشراف القوم، ومقدم عليهم، له الزعامة الدينية، بأنه عربيد خليع ماجن، ليس له من الحياة إلا معاقرة الخمر والانغماس في حمأة الجنس، فالعرب.. رغم وثنيتهم لم يكونوا يقدمون على أمورهم الجُلّى الدنئ.
أية وثيقة.. لا بد من عرضها على منطق الوجود، فإن جاءت منسجمة مع سنن الحياة فهي مظنة القبول، أما إنْ تعارضت معها فإنَّ سبيلها الرفض، ولا يمكن أن نغمض أعيننا عن هذا المنطق لأجل قصة تناغي عواطفنا وتبهر مخيلتنا. وصنم مازن (نحيت من حجر)، جماد لا ينطق ولا يتحرك، ولا ينفع ولا يضر، والإسداء إلى الجمادات ما ليس من طبيعتها عبث، وضرب من الخيال المنبتّ عن الواقع، فهذه حجارة الوجود لا نسمعها تخاطب أحدًا، ولم نرها تنتقل من مكان لآخر بذاتها، إلا على سبيل الأدب والمجاز.
ما حصل في قصة إسلام مازن بن غضوبة هو من جنس الحكايات التي يصطنعها العاجز عن إشادة الحجة من مبادئه الإيمانية وتصوراته المنطقية، مَن ترغمه أسباب الحفاظ على ذاته أن يهتك أستار المعقول ليلج عالم اللامعقول، وهو ما تشبثت به الوثنية في مرحلة أفولها، حيث أبت إلا أن تترك بصماتها في تفكير الناس، وإلا ما الرابط بين انتشار الإسلام الذي يسبقه توحيد الله إلى عقول الناس، وبين صنم هو رمز الوثنية يتكلم مناقضًا قوانين الوجود.
القصة.. كما أنها تخالف الواقع الذي يسير عليه الكون؛ تناقض الحجة العقلية التي أقامها أبو الأنبياء إبراهيم على قومه عندما حطم أصنامهم: (قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ، قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ، فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ) [الأنبياء:62-65]. والآيات بينّات، كافية بنفسها وضوحًا عن تفسيرها، وإنما العجب ممن يصدقون الأساطير المناقضة لحقائق الوجود ومباني الدين الحنيف.
قصة تكلم صنم مازن.. كما أنها تتعارض مع الواقع والبرهان؛ تتنافى كذلك مع رسالة التوحيد التي جاء بها القرآن، فالتوحيد.. قائم على أن النافع والضار هو الله وحده، وأن ليس أحد غيره هاديًا للحق، أما القصة فتسند الهداية والنفع والضر إلى صنم. يقول الله: (قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ)، (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ) [الفرقان:55]، (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ، قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ) [الشعراء:69-73].
إن التشبث بأوهام الماضين؛ لا يخدم الدين، ولا ينفع المؤمنين، ويتعارض مع ما جاء به التنزيل. لكن يبقى لتلك القصص مادتها المعرفية؛ التي ينبغي أن تنزل منزلتها من النقد والتحقيق، وتقرأ في خط تطور الأفكار، وخارطة معتقدات الناس، ومآلاتها التي ربما لم يتصور أصحابها اندثارها، وأن الزمن آتٍ عليها طيًا بحدثانه؛ كما يأتي أحدنا على زرعه حصدًا بمنجله.
