عيدُ الوطن واتزانُ السياسات

19 نوفمبر 2022
19 نوفمبر 2022

بقدرِ ما تجسدُ الأيامُ الوطنية فرصة مواتية للاحتفاء بالمنجزات بقدرِ ما تضعنا أمام نقطة زمنية لمراجعة السياسات ونتاجها على المستوى الوطني، والتأمل في المتحقق والفعال منها ومطالعة انسجامها وأدائها لأثرها الكلي على مستوى بنية الاقتصاد والمجتمع. أضافت سلطنة عُمان عامًا ثانيًا بعد خمسين نهضتها التي شهدت بناء أركان الدولة واتضاح واتساق بناها التشريعية والمؤسساتية. ليأتي عامٌ ثانٍ يضاف لنهضتها المتجددة بقيادة السلطان هيثم بن طارق – أيده الله – في مرحلة عنوانها وضوحُ النهجِ والالتزام بمسار التوجهاتِ الوطنيةِ وانتهاج مقاربة للنمو الشامل تسعى إلى موزانة النمو القطاعي والفئوي والمكاني على حدٍ سواء.

بقراءة موجزة لملامح المرحلة (2020-2022) يمكننا القول أن النموذج التنموي في سلطنة عُمان انتهج ما يُعرف في علم اجتماع التنمية بمقاربة "النمو الشامل" وهذه المقاربة تقوم أركانها على 9 أبعاد رئيسية بحسب المنظرين لها وهي: "الإصلاح المؤسسي ـ النمو القطاعي المستدام ـ السياسات الاقتصادية والاجتماعية الداعمة ـ النفاذ الكامل للخدمات التعليمية والصحية والاجتماعية بكفاءة ـ عدالة التوزيع والتماسك الاجتماعي والحماية الاجتماعية ـ المشاركة في اتخاذ القرارات ـ مراعاة الاعتبارات البيئية ـ الحد من تدهور مستويات المعيشة اللائقة". ولكل بعد من هذه الأبعاد دلالاته على مستوى ما استُحدث من تشريعات وما أوجد من سياسات وما أُقر من برامج وما وُجه به من توجيهات. ويمكن أن نرصد عدد من الملامح التي اتسمت بها المقاربة التنموية خلال العامين الماضيين على نحو الآتي:

- التزام السياسات بموجهات الرؤى الوطنية والخطط التنفيذية المنبثقة عنها ومواصلة التأكيد على ضرورة تسريع العمل على تحقيق مستهدفات الخطط الوطنية بما في ذلك خطة التنمية الخمسية العاشرة.

- تسخير الفرص التي تتيحها الظروف الدولية المتغيرة لخدمة تحقيق الأولويات الوطنية. فالارتفاع في أسعار الطاقة كظرف دولي متغير استثمر في تسريع مقاربات "التوازن المالي والاستدامة المالية" وتصاعد الهواجس الدولية إزاء موضوع التغير المناخي وضرورات التحول نحو الطاقة المتجددة بإيجاد خطة وطنية طموحة للانتقال المنتظم للحياد الكربوني وتهيئة البيئة التشريعية لتكون أكثر مواكبة لاحتواء ظاهرة التغير المناخي.

- إيجاد الضمانات في السياسات الاجتماعية للحد من التأثيرات غير المحسوبة لبعض السياسات الاقتصادية على بعض الفئات الاجتماعية وخصوصًا الفئات الأشد احتياجًا.

- تسخير مراكز الثقل في السياسة الخارجية لخدمة التوجهات الاقتصادية والأولويات الوطنية والتحول نحو "دبلوماسية الفرص" بالاستفادة من كل اتجاهات العلاقات الدولية في تنمية وتطوير وملامسة الأولويات الوطنية. ويظهر ذلك من خلال الاتفاقيات ومذكرات التفاهم وتفعيل لجان العلاقات الثنائية في الزيارات التي قام بها سلطان البلاد المفدى أو في الوفود التي تم استقبالها في سلطنة عُمان.

- البناء على عامل التحول نحو اللامركزية في سبيل تحقيق ثلاث عناصر أساسية: تعزيز عدالة التنمية وشمولها – اتضاح المنظومة المؤسسية والتشريعية لمشاركة المواطنين في اتخاذ القرار التنموي – تحويل المزايا النسبية للمحافظات إلى موارد حقيقية وفاعلة في خدمة نمو اقتصاداتها وتسخير فرص النمو للاقتصاد الوطني بشكل عام.

وإن كانت الأرقام والمؤشرات الاقتصادية وآخرها (تقرير مشاورات المادة الرابعة لسلطنة عُمان لعام 2022) عن صندوق النقد الدولي والذي يشير إلى توقعات نمو الناتج المحلي الإجمالي بنحو 4.3% هذا العام و 4.1% في العام القادم وإلى انخفاض المديونية العامة للدولة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 43.7% هذا العام وإلى نحو 39.6% في العام القادم. فإن كل هذه الأرقام يوازيها سياسات لحفز التنمية وتسريع وتيرة المشروعات التنموية فبعد التوجيهات السامية بإضافة 650 مليون ريال أخرى كمشروعات تنموية مضافة إلى المشروعات التنموية المقرة في الخطة الخمسية العاشرة جاءت بشارات نوفمبر بتعزيزها بمشروعات بقيمة 52 مليون ريال عُماني أخرى مصحوبة بحزم جديدة من القرارات والتوجيهات الهادفة لتعزيز الحماية الاجتماعية. عوضًا عن مشروعات متوزاية في مختلف القطاعات كقطاع الثقافة الذي أعلن عن الاستراتيجية الثقافية العُمانية لتكون خارطة المشهد الثقافي والإبداعي العُماني خلال الأعوام المقبلة. وقطاع الصحة الذي يواصل الإعلان عن مشروعات ضامنة لتكافؤ الخدمات الصحية في كافة المحافظات بين مستشفيات تم الشروع في تشييدها وأخرى تم إرساء التناقص عليها وأخرى اكتمل إنشاؤها عوضًا عن مختبر الصحة العامة الذي أعلن عنه مؤخرًا. إذن كل هذه الجهود القطاعية هي دلالة على أن السياسات العامة التي الشروع في إنفاذها خلال العامين الماضيين لها ثلاث سمات رئيسية (التوازن والتكامل – الحساسية تجاه المتغيرات المحلية والإقليمية والدولية – البناء على التمكين القطاعي والمكاني).

لكن ما الذي تحتاجه المرحلة القادمة للبناء على ما تحقق؟ على مستوى فاعلية السياسات العامة فإن المرحلة القادمة في تقديرنا تحتاج للمزيد من عناصر الاتصال بين السياسة العامة والسلوك العام (البنى الثقافية)، على سبيل المثال مع التوجه نحو اعتماد مقاربات الحياد الكربوني نحتاج في الشق الموازي إلى العديد من حملات تغيير السلوك المجتمعي نحو ما يُعرف بـ "السلوك الأخضر" وهو الذي يحدد دورنا كأفراد وممارساتنا وما يتوجب علينا فعله في إطار دورة سلوكنا اليومي لنتواكب مع المقاصد الكلية لهذه السياسة. هذا سيحقق فهمًا أكبر لمقاصد السياسة العامة ودعمًا أكبر من الأفراد لتحقيق مستهدفاتها وتواصلًا أكثر فاعلية للمؤسسات القائمة على تحقيقها ربطًا بالثقافة المجتمعية. تحتاج المرحلة المقبلة أيضًا إيجاد منظور مؤسسي متكامل لمبادئ "جودة الحياة" بعناصرها المتكاملة وهنا نقترح إيجاد استراتيجية وطنية تعنى بهذا الشأن لجمع وعصف واستمطار المبادرات والرؤى التي تحقق تكامل الجهود في هذا الشأن مع أهمية وضع مستهدفات وطنية يمكن القياس عليها والتوجه نحوها. على مستوى المحافظات والتمكين المكاني هناك أهمية قصوى لوضع إطار أكثر منهجية لإشراك المجتمعات المحلية في صنع القرار التنموي ونقصد هنا ممارسات محددة / منهجية / علمية / مستدامة لتحقيق مبادئ المشاركة المجتمعية يتم الاسترشاد بها والبناء عليها. ويمكن القول عمومًا أن عامل اتزان السياسات يؤسس خلال المرحلة المقبلة لخطط وطنية أكثر فاعلية ومجتمع أكثر مشاركة في صنع القرار التنموي ونسق أكثر تمكينًا لفئات المجتمع باختلافها لممارسة الدور التنموي المنشود منها.