نوافذ.. اليوم العالمي للفلسفة

19 نوفمبر 2022
19 نوفمبر 2022

رغم مرور عشرين عامًا بالتمام والكمال منذ بدأت منظمة اليونسكو الاحتفال باليوم العالمي للفلسفة، الذي يصادف الخميس الثالث من نوفمبر من كل عام، إلا أنه لا يبدو أن ثمة اختراقات كبيرة حدثت في اعتراف الدول العربية (ودول العالم الثالث بشكل عام) بأهمية هذا الفرع من العلوم الإنسانية، وأظن أن الأمر سيحتاج وقتًا ليس بالقصير حتى يُدرِك المسؤولون ومن بأيديهم القرار في هذه الدول أن تدريس الفلسفة منذ الصفوف الدراسية الأولى ليس ترفًا فائضًا عن الحاجة.

هدفت المنظمة الدولية من تخصيص يوم في السنة للتذكير بالفلسفة إلى تعزيز التزام الناس بها، و"زيادة الوعي حول أهمية التحليل والبحث والدراسات الفلسفية حول القضايا المعاصرة الرئيسية" كما تقول في أدبياتها، و"إلهام الناس لاستكشاف ومشاركة الأفكار الجديدة ودعوة الأفكار الفلسفية والمناقشات حول مشاكل المجتمع"، ولكن لأن هؤلاء الناس غارقون في مشاكلهم الاقتصادية والسياسية فإن آخر ما يمكن أن يكترثوا به هي الفلسفة التي تكتسب -في الوطن العربي والعالم الإسلامي بشكل خاص- سمعة سيئة، كونها متهمة من قبل بعض التيارات الدينية المؤثّرة بتهديد الدين والعقيدة، مستندة -هذه التيارات- على مقولات جاهزة متوارثة من قبيل "من تفلسف فقد تمنطق، ومن تمنطق فقد تزندق"!.

لكن حتى في العالم الغربي لا يبدو أن للفلسفة حظوة كبيرة. يتحدث أستاذ الفلسفة أوليفر ليمان في كتابه "مستقبل الفلسفة في القرن الواحد والعشرين" (سلسلة "عالم المعرفة"- مارس 2004م-بترجمة مصطفى محمود محمد) عن أن "هناك مفهومًا رومانسيًّا تخيّليّا عن الفيلسوف باعتباره مخلوقًا من العالم الآخر، ليس له اهتمام بالمسائل الحياتية العملية على الإطلاق"، ويضيف إن "هناك أقوالًا تتناول فلاسفة الشك الإغريق الأوائل بأنهم كانوا يعيشون بالفعل مستغرقين في شكهم، ولا يأخذون بأي شيء يكتنفه شك، ولا يسلمون بأي شيء غير يقيني. ولقد دأبوا كما يبدو على السقوط في الحُفَر، نظرًا لأن ملاحظة أي حفرة أمامهم لا يمكن اعتبارها دليلًا مؤكدًا لا يرقى إليه أي شكّ على وجود حفرة فعلية. وكان يتعين على حوارييهم ومريديهم الذين يتبعونهم على مسافة مناسبة، أن ينقذوهم ليتأكدوا من أنه لم يصبهم ضرر بالغ. وكانوا يلجؤون إلى الشدة من أجل إقناعهم بضرورة أن يأكلوا، ومن أجل التأكيد لهم على وجود علاقة وثيقة بين التغذية والبقاء على قيد الحياة". انتهى كلام ليمان، ولنا أن نتساءل إذا كانت صورة الفيلسوف في الغرب، بهذه المبالغة في السخرية منها، فكيف ستكون هي إذن في بلادنا العربية!.

ورغم أن ظاهر الأمر هو مجرد اتخاذ قرار سياسي بتدريس الفلسفة في المناهج العربية، إلا أن هذه القرار ليس بتلك السهولة التي نراها نظريًّا. إذ إن اهتمام معظم السياسات التعليمية في الوطن العربي ينصب ناحية العلوم الطبيعية والرياضية والمعارف التقنية التي عليها الطلب الزائد في سوق العمل، فالتعليم يكون هنا من أجل العمل أكثر من كونه من أجل العلم، وهذا ما يفسّر مثلًا إغلاق قسم الفلسفة في جامعة السلطان قابوس الذي كان نشِطًا في التسعينيات، والحجة في ذلك أنه لا توجد ضمن وظائف الجهاز الإداري للدولة وظيفة "فيلسوف". هذا علاوة على مشكلة أخرى تعترض تدريس الفلسفة تتحدث عنها الباحثة اللبنانية ريتا فرج، وتتعلق بـ"توجس بعض الأنظمة السياسية من المقدرات التي تمنحها الفلسفة للطالب على مستوى بناء العقل النقدي والتساؤلي؛ أي ضدًّا من العقل الاجتراري/ الإذعاني".

المفارقة هنا، أنه في مقابل التهميش المؤسسي الحكومي المقصود للفلسفة في وطننا العربي (إلا في استثناءات قليلة أبرزها المغرب) فإن جل الاهتمام بها ومحاولة إبقاء شعلتها مضيئة يأتي من المجتمع المدني والمؤسسات الخاصة. على سبيل المثال يتواصل في الفجيرة وأنا أكتب هذه السطور ملتقى دولي للفلسفة ينظمه "بيت الفلسفة" وهو منظمة مدنية إماراتية تضع شعارًا لها هذه العبارة: "إن الفلسفة صانعة لمفاتيح أقفال الكينونة البشرية، والكاشفة عن ماهية الوعي والحق والحقيقة". وقبل عدة أشهر نظمت مؤسسة بيت الزبير ملتقاها الفلسفي الأول بمشاركة فلاسفة وباحثين من عُمان وخارجها، مواصِلة بذلك ما بدأتْه قبل عدة سنوات من دراسة مستقبل العلوم والمعارف الإنسانية وعلى رأسها الفلسفة، في ندوات متواصلة خلال معرض مسقط الدولي للكتاب، وتوثيق ذلك في كتاب. وكانت الجمعية العُمانية للكتّاب والأدباء من أوائل مؤسسات المجتمع المدني التي حرصت في سنوات ماضية على الاحتفاء باليوم العالمي للفلسفة وتنظيم ندوات وفعاليات عنها، بل إنها أنشأت لها لجنة خاصة بها هي "لجنة الفلسفة". وقد ذكّرنا الباحث علي بن سليمان الرواحي في مقال له عن "مستقبل الفلسفة في عُمان" (نشر في مجلة نزوى عام 2015) وخلص فيه بأن هذا المستقبل محاط بالكثير من الغموض والتراجع، ذكّرنا بـ"منتدى الفلسفة الصغرى" الذي كان ضمن منتديات "فرق" الإلكترونية العُمانية، وكان يضع على بساط البحث والنقاش العديد من القضايا الفلسفية.

هوة كبيرة إذن بين المؤسستين الرسمية وغير الرسمية في التعاطي مع الفلسفة والاهتمام بها، والإيمان بأفقها التنويري، وليس أمامنا اليوم سوى انتظار أن تنردم هذه الهوّة.