التاريخ المروي.. استنطاق الاجتماع الصامت

07 نوفمبر 2022
07 نوفمبر 2022

في 20 اكتوبر (الشهر الماضي) أقام مركز الدراسات الحضارية بوزارة الثقافة والرياضة والشباب «ندوة التاريخ المروي»، في النادي الثقافي بمسقط. جاءت الندوة من إيمان المركز بأن الاهتمام بالتاريخ المروي هو واجب حضاري ووطني؛ تجاه الأحداث ورواتها، والوطن وأجياله القادمة، قبل أن تطوي ذاكرةَ الأيام سافياتُ الدهر. وهل العلوم التي ندرسها والمعارف التي نقرأها إلا تأريخ؟ فالحدث.. لا يبقى حاضراً إلا لحظة وقوعه، ثم يتحول إلى تأريخ، يتناقص بتقادم الأيام، وقد يتحوّر في رحلة انتقاله حتى يصلنا على خلاف ما وقع. وجاء اهتمام المركز بهذا العلم كذلك؛ ليستنطق الاجتماع الصامت، الذي آن له أن يتكلم بلسانه المروي، وإلقاء الضوء على فلسفة تاريخه، ومناهج تدوينه، وآليات عمله، والعلوم المرتبطة به.

لقد تكلمت عن أهمية تدوين جانب من تأريخنا الشفهي، وهو ما يتعلق بنهضتنا العمانية المعاصرة، في مقال «ذاكرة النهضة العمانية» نشرته جريدة «عمان» مشكورة بتاريخ: 10/ 10/ 2020م. فقلت: (نحن العمانيين أمام لحظة تأسيسية فارقة في تاريخنا، تستوجب علينا أن ندوّنها، بكل تفاصيلها؛ قدر الإمكان، مع توخي المنهجية والموضوعية. فالتاريخ.. عنصر أساس في رسم خارطة المستقبل وبناء الأمم ومعرفة الأجيال أمجادها. وإذا كنا اليوم نجهل كثيراً من أحداث ووقائع التاريخ الغابر، لاسيما؛ المراحل المؤسِّسة للأطوار الكبرى، فإنه يجب علينا ألا نقع في الإشكال نفسه، فلا زالت لدينا الفرصة سانحة لكي ندوّن تأريخ هذه المرحلة، وإن كان الزمن الآن مواتياً فإن مروره السريع قد يطوي في غياهبه كثيراً من الأحداث، فيجعلها أثراً بعد عين، فيستحيل رجعها ويصعب سد فراغها، وتُفقد مواقف قد نأسف على عدم توثيقها، فتظهر بمرور الأيام ثغرات في البناء المعرفي لمرحلة من أهم مراحل تاريخنا، وحينها لات ساعة مندم).

في الندوة.. أكدتُ على ما بدأنا التخطيط له بالتعاون بين مركز الدراسات الحضارية والنادي الثقافي، وهو جمع ما أمكن من التأريخ الشفهي لبعض مَن أسهم في بناء النهضة الحديثة، وهو ما نأمل أن ننفذه بإذن الله. والمقال.. يتحدث عن بعض الجوانب المنهجية للتأريخ المروي. وأول ما يواجه المشتغل به هو المصطلح، والمصطلح.. كلمة مفتاحية لفهم مرتكزات الموضوع، لكنه لا ينبغي أن يكون قيداً عن الانطلاق في المساحات الواسعة التي يستلزمها البحث. وليكن حديثي عن الفرق بين التاريخين؛ الشفهي والمروي.

التاريخ الشفهي.. هو أخذ خبر الحدث مباشرة من شفة صاحب الحدث، أو ممن شهده، ولعل أخذه من الأخير أكثر صدقاً ممَن وقع له، فهو شاهد خارجي يصف الحدث كما رآه وسمعه، بيد أن هذا الصدق مع أهميته قد لا يعطي الموضوعية المأمولة، فقد تغيب دوافع الحدث عن الشاهد. ولذلك؛ من المهم في الجمع الشفهي أخذ أكبر قدر ممكن من الروايات المتعلقة بالحدث، بغية المقارنة بينها.

أما التاريخ المروي.. فأوسع مفهوماً من الشفهي، حيث يشمل ما جمع من شفاه الرواة، وما أخذ عبر الروايات؛ أي ما رواه فلان عن فلان حتى صاحب الحدث أو من شهده. وعلى المؤرخ أن ينتبه للعوارض التي تعتري الراوي: سواءً العوارض الداخلية كالنسيان والوهم، أم العوارض الخارجية كالكذب وبتر الخبر، فالراوي.. قد يروي ما يوافق تفكيره وهمه.

رغم كل ما يلاحظ على الروايات إلا أنها تعتبر مادة أساسية في علم التاريخ، واليوم؛ لا أحد يمكنه أن يتجاوز الاغتراف من معين هذه المادة التي تزخر بها العقول. ومصداقاً للعبارة المشهورة (إن موت شخص هو فناء مكتبة)؛ فإن التعجيل بجمع الروايات من كبار السن ضرورة علمية للمؤرخ. وسلطنة عمان.. اهتم باحثوها بجمع الروايات الشفهية، فهناك مشاريع عدة جمعت مادة جيدة من أحداث الماضي القريب، وهنا يأتي دور المؤسسات باحتضان هذه المشاريع، وإخراجها في عمل علمي رصين، ويجدر بالذكر؛ أن مكتبة الندوة العامة ببَهلا لديها مشروع لجمع الروايات من كبار السن، بلغ مجموع المقابلات حتى الآن حوالي 60 مقابلة.

التاريخ المروي.. مشتملاً على التاريخ الشفهي، يمثل معظم التاريخ الذي يتلقاه الإنسان، فبدايةً.. كانت البشرية لا تعرف الكتابة، وعاشت آماداً طويلة حتى اخترعتها منذ حوالي خمسة آلاف عام، ولأن التاريخ صنو حركة الإنسان، فقد كان ينقل أحداثه شفهياً، عبر الروايات المتناقلة؛ أفقياً بين المتعاصرين ورأسياً بين المتعاقبين. وهذا التاريخ لم يقف عند نقل الحدث اجتماعياً، أو التأثير سياسياً، بل انبثقت منه أديان، فمن الأساطير التي يرويها الأسلاف لأخلافهم انعقدت معتقداتهم وانتظمت طقوسهم، حتى بدأ تدوين المعتقدات وأساطيرها في حضارة الرافدين من قِبَل الأكديين. وقد تميّزت الشرائع التوحيدية بتدوين الوحي المنزل على أنبيائها الكرام في الألواح والكتب.

فلسفياً.. التأريخ المروي ليس روايات؛ صحيحة أو سقيمة فحسب، وإنما هو يحكي «الضمير الاجتماعي» الذي تجمع فيه الرواية، ثم «الضمير الاجتماعي» الذي حصلت فيه الواقعة. وتقديم زمن الجمع على زمن الحدث لأجل أن المؤرخ يتعامل بالأساس مع زمن الجمع، فتقلّب الأيام مؤثر على الرواة، فلرُبَّ حادثة حصلت قبل خمسين عاماً في ظروف لا يعيها الراوي؛ فلن يتمكن أن يرويها بـ«ضمير» ذلك المجتمع، بل سيقدمها تحت وهج «الضمير الاجتماعي» الذي يهيمن على زمن روايته للحادثة.

يوجد ما أسميه بـ«ظاهرة قطب الإبهار الاجتماعي»، ففي المجتمع قد تظهر شخصية مؤثرة، تبهر الناس بكارزيميتها ومنجزاتها، فيتناقل الرواة الأحداث تحت ضغط هذا الإبهار. وهذا ما لاحظته مثلاً في شخصية أبي زيد عبدالله بن محمد الريامي(ت:1364هـ)، فقد اجتذب الناس إليه بزهده وعدله، وأهالي بَهلا حتى اليوم يروون عنه كثيراً من القصص، لكن كثيراً منها مُغلّف بالمبالغات؛ في شخصه وزمنه. وينبغي ملاحظة هذا أيضاً في شخصية السلطان قابوس بن سعيد(ت:2020م)، فالرواة الذين يروون الأحداث -لاسيما- عن شخصه، أو غير المشهورة من عهده، قد يقعون في إسار المبالغة بحب هذا القطب العظيم.

الثقافة الاجتماعية.. مؤثرة في جمع التاريخ المروي، هذا التأثير نلحظه في أمور؛ منها:

- بعض المجتمعات لا تلتفت إلى النساء في تحصيل رواياتهن، كأن التأريخ لا يصنعه إلا الرجال، وقد يتجه البعض إليهن لجمع ما يتعلق بالأسرة والأعمال المنوطة بالنساء. والواقع.. يثبت أن بعض النساء جرت شواهد أبصارهن على ما لم تقع عليه أعين الرجال، فينبغي الاتجاه إليهن لجمع الروايات. مع ملاحظة ثقافة المجتمع، حيث إن النساء قد لا يبحن بما لديهن للرجال، فعلى المرأة أن تتولى نبش ذاكرتهن.

- المجتمع العماني.. به أجناس من بلدان مختلفة، شهدوا أحداثاً كثيرة فيه، وتابعوا التطور الذي اصطنعته السنون الأخيرة، منهم عرب، خاصةً.. المعلمين، من مصر والسودان والأردن وفلسطين والمغرب العربي، ومنهم من شبه القارة الهندية، بما فيهم العمال والتجار والأطباء. فهؤلاء.. ينبغي ألا نغفل عنهم في جمع المادة التاريخية، فهم من موارد الوقائع الخصبة.

- اختلاف اللغة يجب ألا يحول دون تحصيل الروايات، لكن علينا أن نختار لمقابلة المتكلم بغير العربية مَن يجيد اللغتين، متمكناً في المفاهيم والمصطلحات لترجمتها، فكثير من الناس يتكلمون بلغتهم الدارجة، وهي غير اللغة المعتمدة في التعليم والتأليف، فلا يكفي الجامع أن يجيد اللغة الهندية -مثلاً- ليجمع روايات الهنود القاطنين في مجتمعنا، بل لابد له أن يتقن اللغة كما ينطق بها الشخص المقابَل.

صفوة القول.. التاريخ المروي بالنسبة للمؤرخ هو علم له مناهجه، ولجامع الرواية هو فن دقيق يجب إتقانه. ولذلك؛ نأمل في مركز الدراسات الحضارية أن نقيم ورشة عمل يتدرب فيها المعتنون بهذا التاريخ، حتى يتعزز بهم العلم، ويستنطق بهم أكبر قدر من صوامت تأريخنا.