عن خطورة التفكير الرغبوي

28 سبتمبر 2022
28 سبتمبر 2022

كثيرون من أبناء العالم يشعرون أنهم مُعادون، أنه يُميز ضدهم على أساس المجموعة التي ينتمون لها. وكحل معقول لإلغاء هذا التمييز يتبنى هؤلاء أو المتضامنين معهم - خصوصا من أبناء الأجيال الجديدة - نوعا من إمحاء الهويات. فالألماني يرفض تعريف نفسه على أنه ألماني، خشية أن يكون تبنى هوية ألمانية ممهدا لسلوك قومي أو فاشي. في هذا المقال نحاول التحقيق في خطورة هذا النوع من الامحاء إن كان على المستوى الفردي أو الجمعي.

لماذا لا يمكن تصدير مفهوم وسياسات «عمى الألوان» من القانون إلى حقول المعرفة؟

السياسات عمياء اللون هي سياسات رافضة للمعاملة على أساس العرق (خصوصا) تُوضع بهدف تحقيق المساواة. حيث يتم إبطال أي قوانين تُفاضل أو تمايز على أساس العرق. لكن مفهوم «العمى» هذا يُمكن أن يتسلل لحقول المعرفة مشكلا خطرا حقيقيا على القدرة على فهم الظواهر، وفرض الإصلاحات.

درج الدارسون -مستخدمين الأدوات الإحصائية- إلى تحليل الكثير من الظواهر الاجتماعية بناء على خصائص مثل (العرق، الجنس، العمر، اللغة). حيث يتم الربط بين ظاهرة ما وخصيصة اجتماعية، فيُقال مثلا إن النساء تتحدث أكثر من الرجال (يتم حساب الكلمات التي يستخدمها كل جنس)، وأن السود أقل ذكاء (باستخدام اختبارات الذكاء).

يسهل الانخراط في نوع من التفكير الرغبوي الذي يُلغي أي فروق بين الأعراق أو الأنواع الجنسية، وافتراض عدم وجود أي فارق بين الرجال والنساء، أو بين البيض والملونين في مجتمع ما. لا أتكلم هنا عن فروق فطرية (بيولوجية) ولكن عن فروق ثقافية. التعالق بين ظاهرة ما والنوع أو العرق قد يكون موجودا في الواقع. قد يُنظر إلى التعامي عن هذه الفروق على أنه الخطوة الأولى في اتجاه إقامة مجتمع منسجم تتآلف فيه كل الألوان والطوائف. الحقيقة أن في هذا التعامي إشكاليات خطيرة. في مقال منشور على The Local الفرنسية يُشير جون ليشفيلد John Lichfield أنه بهدف محاربة العنصرية في فرنسا، تم تحريم جمع إحصائيات على أساس العرق منذ 1978. ولهذا فإنه لا يمكن -مثلا- معرفة ما إذا كانت حظوظ السود في فرنسا من التعليم والتوظيف متساوية. هذا التقليد السياسي الفرنسي ظاهر أيضا في تحريم إظهار الرموز الدينية (ارتداء الحجاب مثلا). تسعى مثل هذه السياسات على إلغاء التمييز عبر إجبار الأفراد على محو الفوارق البينة بينهم، لا عبر التركيز على قبول الاختلافات الموجودة. وحتى لا أخرج عن الموضوع، عندما يُتبنى محو الفوارق هذا في العمل الأكاديمي، والتحدث عن تجارب الرجال والنساء أو الأبيض والملون على أنها سواء فهذا يُعيق الفهم العميق للظواهر المعقدة. مثلا إن كانت النساء تتحدث أكثر من الرجال فماذا قد يعني هذا؟ يُمكن أن يُستغل هذا للانتقاص منهن، والسخرية من تزجيتهن للوقت عبر الأحاديث والنمائم. أو يُمكن أن يُقرأ على أن المرأة التي لم يكن يُعتد برأيها لسنين طويلة تشعر بحاجة عالية لأن تجعل الآخرين ينصتون لها، إنها تحتاج لاستخدام كلمات أكثر لتؤكد وتشرح.

أقول إذا إن التعامي عن الفروقات ونبذ الهويات لمجرد الرغبة في نبذ التمييز على أساسها خطير لمجموعة من الأسباب. أولا، إنه يُنتج أشخاصا بهويات ممحية، ويصنع انفصالا عن الواقع، وفجوة في الفهم ناتج عن الافتقار للسياقات. يُمكن مثلا منع تدريس تاريخ الحروب الأهلية أو القبلية، بحجة أن هذا قد يُنبه الطلبة لمواجهات قديمة بين المجموعات التي ينتمون لها، وأن هذا قد يواصل صناعة العداءات. قد يجعل هذا الإهمال الفرد يشعر بأنه معلق في الفراغ وتصنع تحديا في شعوره بأنه ينتمي. فُقدان الشعور بالانتماء يؤثر على طمأنينة الفرد. ثانيا، إنه يُخلي من المسؤولية. حتى نفهم لابد من وضع الأشياء في مساقاتها. وإذا ما أُهمل التاريخ، كما يفعل بعض الشبان الألمان تجاه التاريخ النازي مثلا، وإذا ما رفض الإنسان الألماني هويته الألمانية فالنتيجة هي انفصال يُمكن أن يُخلي الأجيال الجديدة من مسؤوليتها التاريخية تجاه الشعوب التي اعتدت عليها. يسري هذا على المُستعمِرين الذين يُتوقع منهم تحمل مسؤولية ما اقترفته أجيال سبقتهم. والخط الوحيد الذي يجمع المُسيء الأول بورثته هي البلد التي ينتمون لها، وأن الأجيال الجديدة وإن لم تسئ فإنها تتحمل مسؤولية ما أفسدته. المستعمر أفضل حالا لأنه استغل، هذا الاستغلال جعله في مكان أفضل (أثرى مثلا)، مكان ذو امتيازات لابد أن يستغلها للتعويض عن الإساءات السابقة.

في الختام علينا أن نسأل إذا كان من المعقول قبول وجود فروقات، وقبول تعالقها بخصائص الأفراد الاجتماعية، فما الضامن أن مثل هذه المعرفة لن يُساء استخدامها لتبرير التعامل المسيء ضد مجموعة ما؟ تكمن الإجابة في النوايا. إن كانت نية دراسة ظاهرة ما وربطها بمجموعة ما هو نابع من الرغبة في تقديم المساعدة، والدفع بهذه المجموعة إلى الأمام، فإن إجراءات الدراسات يكون مبررا. أما إذا كان يُمكن استغلالها بما يُبرر التمييز فإن إجراءها لا يجب أن يكون مقبولا بأي شكل.