المخيال الاجتماعي والسياسة العامة

24 سبتمبر 2022
24 سبتمبر 2022

شهد موضوع "الخيال الاجتماعي" أو "المخيلة الاجتماعية" The Sociological Imagination في علم الاجتماع صعودًا وهبوطًا تاريخيًا في سياق المدارس النظرية والبحثية التي تناولته. حيث تعود الفكرة إلى عالم الاجتماع الأمريكي رايت ميلز الذي كتب كتابه الموسوم "الخيال السوسيولوجي" في عام 1959 وفيه نادى بضرورة أن يتجه البحث الاجتماعي إلى النظر إلى حقيقة التجربة الاجتماعية بما تشكلها من وعي الأفراد والصور التي يخلقونها في مخيلاتهم عن واقعهم. وعدم الانغماس في علم الاجتماع الكلي الذي يحصر تناول المجتمع في البنى والسياقات والأنساق الاجتماعية الكبرى. عرف رايت ميلز الخيال السوسيولوجي بإيجاز كونه "الوعي الحيوي للعلاقة بين التجربة والمجتمع ككل".

يتحرك الخيال الاجتماعي في مساحة لا تهمل دور "المعتقدات والعادات والتصورات والتمثلات الاجتماعية وأنماط الممارسة اليومية" التي تخلق الفرد "الكائن الاجتماعي" وتوجه تفاعله مع المجتمع بأنساقه الكبرى ومع العمليات الرسمية "الوجاهية" فيه. وبالتالي فإن منظور المخلية الاجتماعية يستوجب بالباحث في علم الاجتماع أو الراصد الاجتماعي التوازن بين فهم المجتمعات من ناحية الأنماط الرسمية / البنى الكبرى ممثلة في المؤسسات والتشريعات والثقافة الظاهرية الكلية وأنماط التنظيم الاجتماعي على المستوى الأكبر إلى محاولة فهم وجهة النظر الأخرى المتصلة بالكيفية التي ينظر فيها الأفراد إلى تجربتهم الاجتماعية. وكيف يتفاعلون ويفسرون ويجسدون ما نعتقد أنه مشتركات اجتماعية إلى تجارب ذاتية قد تلعب كل منها دورًا في تجسيد واقعهم وفي تسيير أنماط معيشهم وفي تحديد تفاعلاتهم مع النظام الاجتماعي الرسمي القائم.

ثمة أطروحات مركزية إلى جانب أطروحة رايت ميلز يمكننا العودة إليها في فهم الدور المتعاظم الذي يلعبه اليوم المخيال الاجتماعي ومن أهمها أطروحة: تشارلز تايلر "المتخيلات الاجتماعية الحديثة" وأطروحة: فالنتيا غراسي "مدخل إلى علم اجتماع المخيال: نحو فهم الحياة الاجتماعية" والتي تقول فيها أن ما يمكن تسميته "الحقيقة الاجتماعية" إنما هي نتاج للمعنى الذي يخلقه الأفراد في المجتمع نتيجه الحس المشترك ونتيجة تفاعلاتهم الاجتماعية. وإن الفهم الأصيل للواقع الاجتماعي إنما يكون في إدراك تجربة الآخر والقدرة على تفنيد المعنى الذي يخلقه لسلوكه وتصرفاته وأفعاله وممارساته الاجتماعية. على مستوى ممارستنا كمختصين في علم الاجتماع يشكل منظور المخيلة الاجتماعية اعتبارًا أساسيًا للباحث ومفاده باختصار علينا ألا نحاكم الواقع الاجتماعي وفق تجربتنا المدركة وحدها وإن نحاول أن نعبر من التجربة الذاتية إلى محاولة تمثل الآخر إلى أقصى حد ممكن في طرائق تفكيره وتشكيله للمعنى الاجتماعي الذي يدفع بسلوكه. وهو ما يفترض بضرورة التركيز على دراسة الحياة اليومية في كافة تجلياتها وفي سياق أهمية ذلك يقول عالم الاجتماع أنتوني غدنز "إن دراسة الحياة اليومية تبين لنا كيف يبتدع البشر ويبتكرون أفعالًا مختلفة وخلاقة يسهمون بها في إعادة تشكيل واقعهم... فالأفراد يميليون إلى إدراك الواقع حولهم بطرق مختلفة ومتفاوتة اعتمادًا على طبيعة المِهادات والخلفيات التي نشأوا فيها والبواعث والحوافز التي يستهدون بها, والمصالح التي يسعون إلى تحقيقها".

لماذا نتحدث إذن عن المخيال الاجتماعي الآن؟ نحاول ربط المسألة هنا برسم السياسات العامة وإدارة التغيير من خلال السياسات العامة. فالأهمية التي يمثلها التخييل الاجتماعي بالنسبة للمشتغلين في حقل رسم السياسات العامة لا تقل عن تلك التي يمثلها بالنسبة للمختصين في علم الاجتماع. ذلك أن إدارة التغيير على مستوى السياسات العامة سواء كانت تلك السياسات سياسات اجتماعية كلية أو قطاعية مرتبطة بمعالجة مشكلات معينة أو الاستثمار الأمثل في قطاعات اجتماعية معينة إنما يكون من خلال الفهم والتخييل لواقع الفئة التي تتأثر بتلك المشكلات والتفكير من منظورها وزاويتها ومحاول تمثل وضعها وأنماط تدبيرها لمعيشها. لتكون السياسة العامة أولًا أكثر واقعية في ملامسة تلك الفئة. وفي المقام الآخر تكون منظومة إدارة التغيير المنبثقة عن السياسة أكثر حساسية تجاه تلك الفئة فتصمم الرسالة التواصلية والإعلامية وحملات تغيير السلوك انطلاقًا من استيعاب تجربة المجتمع في تفاعله مع منظومته الثقافية من ناحية وفي مجمل ما يخلقه من تصورات واعتقادات واتجاهات تجاه المؤسسات الرسمية من ناحية أخرى.

إن بناء الارتباط الجمعي بملكية السياسات العامة أو ملكية المشروعات الوطنية لا يتأتى من خلال الرسالة الاتصالية العمومية الجامعة وحدها. وإنما يفترض فهم أن المجتمع الكبير مجتمعات بالضرورة وأن تلك المجتمعات هي المحصلة الطبيعية لناتج الحس المشترك والتجربة الاجتماعية بالضرورة وأن تلك التجربة الاجتماعية إنما هي نتاج المعنى الذي يخلقه الأفراد لواقعهم المعيش وإن مجمل الفهم لهذه الترابطات والتعمق فيها وإدارتها يعني تغييرًا منشودًا وهادفًا في مآلاته الأخيرة.

فيه دراسة بعنوان: "The sociological imagination in studies of communication, information technologies, and media: CITAMS as an invisible college" تم الإشارة إلى تجربة أجريت حول الآراء الإيجابية والسلبية في بيئات العمل حول تأثير التكنولوجيا على كل من الوظائف والأجور. وجدت الدراسة أن بناء رأي / اتجاه / تصور معين إزاء تأثير التكنولوجيا في بيئة العمل إنما هو مرتبط بالدرجة الأساس بالخصائص الاجتماعية والديموغرافية والوظيفية للفرد / المستجيب ومن بين ما أشارت إليه الدراسة أن:

- أن الذين يعملون في وظائف ذات أجور أقل هم أكثر تشاؤمًا بشأن تأثير التكنولوجيا على وظائفهم وأجورهم.

- العمال الأصغر سناً والأكثر تعليماً وذوي المهارات العالية هم أكثر تفاؤلاً.

- الذين يعملون في وظائف إدارية أكثر أو الذين أجروا تحليل البيانات أكثر تفاؤلاً تجاه الابتكار التكنولوجي مقارنةً بأولئك الذين تضمنت وظائفهم المزيد من العمل اليدوي أو الواجبات البدنية.

تحيلنا هذه النتائج إلى حقيقة مفادها أن الوضع الاجتماعي / المهني / الطبقي / العلمي / المكاني / الثقافي الذي يتموضع فيه الفرد إنما يشكل بالدرجة الأساس تصوراته واتجاهاته إزاء القضايا التي يتعرض لها أو تلك التي تعرض عليها. وبالتالي فإن الاتجاهات إنما هي صنعة اجتماعية لا يمكن الاعتداد بها دونما دراسة اتصالاتها وارتباطاتها بكل العناصر والمتغيرات الاجتماعية السابقة. وهذا ينسحب على كافة القضايا التي تتضمنها السياسات العامة وهو ما يستدعي تطويرًا أكبر لحقل الدراسات في هذا المجال وتركيزًا أكاديميًا مكثفًا لتأهيل باحثين قادرين على مواكبة هذه التفاصيل وفهم هذه المنظورات.