نوافذ .. تشابه العناوين

17 سبتمبر 2022
17 سبتمبر 2022

لَطالما رددنا العبارة التراثية الشهيرة: «لولا أن الكلام يُعاد لنفد» وهي عبارة تنطبق على جميع أنواع الكلام، الشفهي منه (ومن أمثلته الحكايات والحوارات والخطب المرتجلة)، والمكتوب؛ المتمثل في المؤلفات الفكرية والأدبية، وإذا كان الكلام يُعاد فإن عناوينه تعاد كذلك، سواء كانت عناوين الحكايات والخطب، أو عناوين الكتب الأدبية والفكرية.

مناسبة هذه المقدمة هي تكرار عدة «حوادث» أدبية هذا الأسبوع قاسمها المشترك عناوين الكتب وتشابهها، الأولى عندما نشر الروائي السعودي عبده خال على صفحته في فيسبوك صورة لغلاف روايته الجديدة المتوقع صدورها في معرض الرياض: «حبل سري»، وهو العنوان الذي ما إن رأتْه الروائية السورية مها حسن حتى ذكّرتْ الجميع بروايتها التي تحمل العنوان نفسه وصدرت قبل أكثر من عشر سنوات، الأمر الذي أدى في النهاية إلى تراجع خال واختياره عنوانًا آخر لروايته هو «وشائج ماء»، بعد أن اتضح له أن أربع روايات أخرى تحمل عنوان «حبل سري» أو عنوانًا قريبا منه، وأفتح هنا قوسًا لأقول إن دار الساقي، ناشرة رواية عبده خال كان لها سابقةٌ في التصادي مع عنوان كتاب آخر من النوع نفسه عندما نشرت ترجمة لرواية الأفغاني رحيم عتيقي عنوانها «حبّ في المنفى» الذي يحيلنا فورًا إلى رواية بهاء طاهر الشهيرة «الحبّ في المنفى»، رغم أن العنوان الأول لم يكن الترجمة الحرفية لعنوان رواية رحيمي.

وعلى أي حال فإن تراجع الروائي السعودي عن عنوان روايته أمر لصالحها، وهو تصرف يذكرنا بما فعله الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو سنة 1966م، عندما غيّر عنوان كتابه الجديد الذي كان يُزمع أن يسميه «نظام الأشياء» (وكان العنوان الأنسب للكتاب والأحب إلى نفسه) إلى عنوان آخر هو «الكلمات والأشياء» بعد أن اكتشف أن ثمة كاتبًا فرنسيّا آخر سبقه إلى العنوان الأول.

بعد حادثة دار الساقي بأيام أعلنت دار المتوسط في إيطاليا عن صدور رواية جديدة للكاتب الفلسطيني المقيم في البرتغال فاروق وادي عنوانها «سوداد» التي هي كلمة برتغالية ترجمتها «حضور الغياب» أو الحنين، فكان أن فعل الكاتب التونسي لونيس بن علي في صفحته على فيسبوك ما فعلتْه مها حسن سابقا؛ تذكير القراء بالرواية الأخرى التي تحمل نفس العنوان، وهي رواية «سوداد» للكاتب الجزائري عبدالقادر ضيف الله، الصادرة منذ عدة سنوات عن دار «خيال»، غير أن ما يميز رواية فاروق وادي أن لها عنوانًا جانبيًا آخر هو: «هاوية الغزالة".

وأظن أن العناوين الجانبية هي التي تنقذ أحيانا بعض الكتب من فخ الالتباس بكتب أخرى. فهناك مثلًا روايتان عنوانهما «دلشاد»: الأولى للسوري سليم بركات، والثانية للعُمانية بشرى خلفان، لكن الذي يميز واحدتهما عن الأخرى العنوان الجانبي؛ الذي هو «فراسخ الخلود المهجورة» لبركات، و«سيرة الجوع والشبع» لبشرى.

بين حادثتَيْ «حبل سري» و«سوداد» كنتُ أستمع إلى حوار زميلي صالح العامري في برنامجه الإذاعي «في هواء الكتابة» مع الروائية الليبية عائشة إبراهيم، عندما سألها عن تشابه عنوان روايتها «صندوق الرمل» مع عنوان مسرحية الكاتب الأمريكي إدوارد ألبي، فكان جوابها أنها لم تطلّع على هذه المسرحية، وأنها أخذت العنوان أصلًا من الوصف الذي أطلقه السيناتور الإيطالي سيلفاميني على طرابلس خلال جلسة للبرلمان الإيطالي عن جدوى الاحتلال لليبيا.

وفي الحقيقة فإن أمر تشابه العناوين وارد جدا، ولكن الكتاب الجيد قادر على البقاء في الذاكرة حتى وإن شابه اسمَ كتاب آخر، فعلى سبيل المثال فإن محبي الأدب العربي يعرفون «البداية والنهاية» للحافظ ابن كثير بنفس درجة معرفتهم لرواية نجيب محفوظ «بداية ونهاية»، بل إن بعض العناوين المميزة تغري كثيرًا من الكتّاب بالنسج على منوالها؛ إذْ يمكن لرواية جميلة كــ«الحب في زمن الكوليرا» مثلًا أن تُلهم كاتب تحليلات سياسية كزاهر المحروقي لعنونة كتابه: «الخليج في زمن الكوليرا»، ويمكن لقصيدة جميلة لمحمود درويش كــ«لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي» أن تغري صحفيًّا كعاصم الشيدي بتسمية كتابه الرحَليّ: «لا أريد لهذه الرحلة أن تنتهي»، ويمكن لمثل عربيّ عن القوة: «لا يفلّ الحديد إلا الحديد» أن يُلهم كاتبًا كعبدالعزيز الفارسي إلى عنوان يفيض رقة لمجموعته القصصية: «لا يفلّ الحنين إلا الحنين». ولا أذيع سرًّا إذا قلتُ إن عنوان كتاب «يا عزيزي كلنا ضفادع» لكاتب هذا لمقال هو تَصادٍ مع عنوان كتاب إحسان عبدالقدوس الشهير: «يا عزيزي كلنا لصوص».

غير أن هناك في النهاية عناوين لا يمكن أن تقع في فخ التشابه مع أي عنوان آخر، ذلك أنها عناوين فريدة وعصيّة على التقليد، أذكر منها على سبيل المثال رواية الروائي الجزائري عمارة لخوص «كيف ترضع من الذئبة دون أن تعضك»، والمجموعة الشعرية لإيمان مرسال «ممر معتم يصلح لتعلم الرقص»، وكتاب نورمان ميلر: «يا لها من فتاة شقراء، تبًّا! إنها مارلين»، وكتاب عبدالفتاح كيليطو «أتكلم جميع اللغات لكن بالعربية»، وغيرها من العناوين المدهشة التي يحق لمبتكريها أن يناموا قريري العين دون أن يخشوا ذهابها لمؤلف آخر.