مركز الدراسات الحضارية.. وأفق التقدم الثقافي
10 مايو 2022م نشرتْ جريدة «عمان» مشكورةً مقالي «مركز الدراسات الحضارية.. تتويج للعمل الثقافي بالسلطنة»، تطرقتُ فيه إلى فلسفة الثقافة العالمية، ومراحل تطورها، وأنها (مرّت بأربع مراحل كبرى، التأسيس: كانت الثقافة فيها تبحث عن مفهومها واختصاصها، ثم الصلبة: لجأت الدولة فيها إلى تكوين قوميتها من خلال العمل الثقافي، ثم السيولة: حيث واكبت الدولة النظرية الليبرالية، فكانت الثقافة جسرًا بين الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني، وأخيرا التشظي: أصبحت الثقافة بيد من يملك التقنية الرقمية). وقد بيّنت فيه بأن الدولة الحديثة في سلطنة عمان شهدت كذلك تطورًا أشبه بمراحل الثقافة عالميًا. كان هذا مقدمة للحديث عن مواكبة سلطنة عمان في نهضتها المتجددة لمقتضيات التطور الثقافي، مما عملت وزارة الثقافة والرياضة والشباب على تأسيس مركز للدراسات الحضارية، وقد وعدتُ حينها بـ(الحديث عن رسالة المركز واختصاصاته، والرؤية التي يصبو إلى تحقيقها، والآمال المعقودة عليه، في مقال بنفسه)، وهذا وفاءٌ بما وعدتُ.
«مركز الدراسات الحضارية».. يأتي تطويرًا للمنتدى الأدبي، فلم يُلْغِه، بل أصبح قسمًا من أقسامه، فالمركز توسع كثيرًا بحيث لم يعد المنتدى يمثّل فيه إلا حوالي 10%. ويعمل المركز على حفظ كل أرشيف المنتدى، ويواصل مشاريعه البحثية، منها: سلسلة دراسات الأعلام العمانيين وسلسلة البلدان العمانية. وفي الوقت نفسه تجاوز المركز تكرار الأعمال الذي تقع فيه المؤسسات الثقافية عادةً، واتخذ الإنتاج العلمي الرصين سبيلاً له. فكل الشكر لمن تولى إدارة المنتدى، ولكل العاملين فيه، على ما قاموا من جهود في خدمة الثقافة العمانية، ورحم الله من أمر بإنشائه المغفور له بإذن الله تعالى السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه.
لقد اقتضت المرحلة الجديدة في الدولة مواكبة التطلعات الثقافية التي تطمح إليها «النهضة المتجددة» التي يقودها عاهل البلاد المفدى مولانا جلالة السلطان هيثم بن طارق -حفظه الله-. لقد حصل إدراك بأهمية هذا التحول منذ أن كان جلالته على رأس وزارة التراث والثقافة، ففي عام 2015م عندما انتقلتُ إلى الوزارة أدركت رغبة جلالته بأن يكون المنتدى «بيت خبرة»، وكان هذا التوجيه أمانة عملت مع الزملاء في المنتدى على ترجمته بوضع رؤية شاملة لتطويره. وقد شاء الله أن تأتي النقلة النوعية بتأسيس مركز للدراسات الحضارية، وذلك بعد أن طوّرنا الرؤية الجديدة بحيث تترجم «رؤيةَ عمان 2040» فيما يتعلق بالثقافة العمانية وأبعادها الحضارية.
مما جاء في ديباجة رؤية المركز (نظرًا للتطور الحاصل الآن في سلطنة عمان بفضل قيادة جلالة السلطان المعظم -حفظه الله- وطموحه المستقبلي بـ«رؤية عمان 2040»، كان من الواجب علينا أن نسير في تحقيق أهداف هذه الرؤية العظيمة، وأن نعمل بمقتضى توجيهاته السامية، التي شملنا بها عندما كان على رأس وزارة التراث والثقافة. لقد تزايدت المنافذ الأدبية لتشترك جميعها في الهدف ذاته الذي وُجِدَ المنتدى الأدبي لأجله، إلا أن ثمة بعدًا غائبًا عن هذه المنافذ، وهو إعداد البحوث الحضارية والدراسات الثقافية، ولحاجة سلطنة عمان إلى بيت خبرة ثقافي في الحضارة العمانية يكون قادرًا على بلورة استراتيجية لبناء السياسات الوطنية عليها، وإلى مواكبة الإنتاج الثقافي ببحوث ودراسات مبنية على أسس علمية ووفق مناهج علمية، ولندرة الإنتاج البحثي حول الرصيد الثقافي العماني الذي يتزايد يومًا بعد آخر دون أن تزامنه مسيرة بحثية رصينة، فإن المركز يطمح إلى توجيه بوصلته إلى عمق الدراسات الحضارية، وأن يكون متخصصًا في البحوث الحضارية والدراسات الثقافية العمانية. إن الحاجة للمراكز البحثية تزداد إلحاحًا يومًا بعد آخر، فالرهان الحضاري يكمن في قوة أدوات العلم وعمقها وقدرتها على بناء الإنسان وبلورة الفكر المجتمعي القائم على الانتماء للوطن والحفاظ على الهُوية. وعُمان بلد الحضارة غنيٌّ بالتاريخ والثقافة الممتدَين منذ قرون ضاربة في عمق التاريخ، وحريٌ بأبنائها أن يستلهموا إرثها الحضاري لتشييد بنية راسخة في أهم مكونات الحياة).
صدر قرار إنشاء «مركز الدراسات الحضارية» مع هيكلة وزارة الثقافة والرياضة والشباب، وقد وضع المركز استراتيجيته على عدة محاور أساسية، هي: البحث في الحضارة العمانية وعناصرها الثقافية، مع التركيز على الإنتاج العلمي الذي لم يسلط عليه الضوء، وإعادة البناء المعرفي وفق أسس موضوعية، والاهتمام بالباحثين وتمكينهم، والعمل على تنشئة جيل مقتدر على التخصص في مجال الثقافة عموما والحضارة العمانية خصوصا، والنهوض بالموظفين في المركز، وتمكينهم علميًا ووظيفيًا كل بحسب مجاله. والمركز يضم أربع دوائر؛ هي:
- دائرة البرامج والدراسات الحضارية: أوكل إليها إقامة الدراسات في مجال الحضارة العمانية، وتنفيذ الورش التي تعدّ الباحثين لكي يتمكنوا من البحث الحضاري، ودعم المهتمين بهذا المجال، ووضع السياسات العلمية في مجال البحوث، الحضارية والثقافية.
- دائرة مصادر المعلومات الحضارية: تُعنى بجمع مصادر الحضارة العمانية وتبويبها وحفظها، وفقا لأحدث الأسس العلمية، وتمكينها للباحثين من سلطنة عمان وخارجها، ورقمنة المصادر في أشمل قاعدة بيانات ممكنة، وإنشاء مستوعب رقمي للإنتاج العلمي الذي يصدره المركز.
- دائرة الترجمة والنشر: جاءت للنهوض بالبرامج التي تمس الثقافة مباشرة، خاصةً مجالي الترجمة والنشر، لكن عملها لا يقف عندهما، فهي تهتم بكل الجوانب المحايثة لهما، مثل: اللغة العربية وإصدار مجلة ثقافية، وإقامة الندوات التي تعزز عمل الدائرة.
- دائرة الموسوعة العمانية: في الأصل هي «مشروع الموسوعة العمانية»، الذي تكوّن له خبرة بحثية وتقاليد علمية، فكان لابد من البناء عليها، خاصةً؛ على العمل الكبير الذي صدر بين دفتي «الموسوعة العمانية»، والذي من الضروري تحديثه. وقد أصبح المشروع دائرة في المركز ليواصل تحديث الموسوعة، وليقيم أعمالاً منبثقة منها. وسيتوسع الاهتمام بالعمل الموسوعي في مختلف مجالاته التي تخدم الشأن العماني، ومن المرجو أن تقوم الدائرة بإصدار موسوعات ومعاجم في مختلف المعارف العمانية. فكل الشكر لمن قام بمشروع الموسوعة، إشرافًا وإدارةً وتنفيذًا.
إن حق عمان علينا ألا نكتفي بما تحقق في المركز، فمع أهميته، وأنه شكّل خطوة واسعة في العمل الحضاري والثقافي، إلا أن هناك الكثير مما يمكن تقديمه، وإذا وضحت الرؤية وحصلت الهمة ووجد الدعم والرعاية، فإن الأعمال تتحقق بمزيد من الإنجاز، وهو ما نأمله في قادم الأيام. ومما وضعه المركز في حسبانه:
- إصدار مجلة محكمة في البحوث الحضارية، بالإضافة إلى مجلة «التثاقف» التي سيصدر عددها الأول قريبًا.
- إقامة مؤتمر دولي للثقافة، يطرح أهم القضايا المستجدة في الحقل الثقافي على المستويين الوطني والعالمي، مع العناية بالربط بين الثقافة والتنمية المستدامة في سلطنة عمان.
- إقامة معرض رقمي دائم لأهم مصادر الحضارة العمانية، كالمكتبات والمدارس الفكرية والشخصيات المحورية والموسوعات العلمية.
- إنشاء وحدة باسم «العمانيات» على غرار: المصريات واليمنيات والهنديات، تدرس حضارة عمان ما قبل الإسلام، وتسعى إلى ترسيخ هذا المصطلح أكاديميًا عبر الجامعات العمانية والعالمية.
- إصدار معاجم متخصصة في الأعلام، كالساسة والقضاة واللغويين وربابنة البحر والأطباء، وكذلك العناصر الثقافية في مختلف مجالات الحياة العمانية.
- تأسيس وحدة تهتم بالمتخصصين في المجالات الثقافية المختلفة، بتمكينهم ونشر مؤلفاتهم، وللاستفادة منهم في صنع القرار الثقافي والفكري بسلطنة عمان.
ختامًا.. جزيل الشكر لكل من عمل على إشادة هذا الصرح الحضاري، بدايةً من المقام السامي لمولانا حضرة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم -أعزه الله- وصاحب السمو السيد ذي يزن بن هيثم وزير الثقافة والرياضة والشباب، وسعادة السيد سعيد بن سلطان البوسعيدي وكيل وزارة الثقافة والرياضة والشباب للثقافة، ولا يزال الرجاء معقودًا عليهم في تمكين المركز والتقدم به، والشكر لجميع الزملاء بالمركز على تعاونهم في صنع هذه الملحمة الوطنية، سائلاً الله أن يتقبل من الجميع جهودهم العظيمة.
