سوريا .. والأمل المنشود!!
بينما تمر المنطقة العربية بتطورات تبعث على الحزن والأسى، سواء فيما يتصل بالواقع العملي على الأرض والعربدة الإسرائيلية الهمجية في غزة وخارجها، أو فيما يتصل بعمليات التصعيد، ومخاطر الوقوع في مواجهات مسلحة في أكثر من قُطر عربي، فإنه يظل من المأمول أن تسفر التحركات والاتصالات العربية الجارية، والتي ستتكثف بالضرورة خلال الأسابيع القادمة، عن مزيد من التقارب والتوافق بين الأشقاء للدفع نحو العمل بشكل أكبر لحل المشكلات العربية القائمة، أو على الأقل العمل على تجنب التصعيد والإسهام في تهيئة المناخ العربي على المستويين القُطري والقومي لمزيد من خطوات التقارب وإعلاء المصالح المشتركة وتجاوز أكبر مساحة ممكنة من الخلافات العربية، وصولًا إلى درجة من التماسك الوطني والقومي، باتت ضرورية ولا غنى عنها لمواجهة التحديات الراهنة والتي لن تستطيع دولة عربية بمفردها التصدي لها وحلها على النحو المأمول.
ولعل ما يعزز هذا الأمل، وعلى نحو موضوعي، أنه تتوفر الآن ثلاثة عوامل، تعمل من منطلقات مختلفة، من أجل الدفع نحو إيجاد مناخ أفضل على المستويين العربي والإقليمي.
وأول هذه العوامل أن سلطنة عمان ودولا عربية أخرى مؤثرة في قلب هذه الجهود، سواء بالنسبة لليمن أو لسوريا أو لدول شقيقة غيرهما، وإن كانت مسقط تؤثر كعادتها عدم الحديث عن تحركاتها ومساعيها الحميدة في هذا الاتجاه أو ذاك.
وفي هذا الإطار يكتسب الاتصال الهاتفي الذي تم بين معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية ومعالي فيصل المقداد وزير الخارجية والمغتربين السوري يوم الأربعاء الماضي، العاشر من الشهر الجاري، دلالته، خاصة أن ذلك يتفاعل مع العامل الثاني الذي يرتبط بالتحركات الجزائرية والعربية للإعداد للقمة العربية الحادية والثلاثين التي ستعقد في الجزائر في الأول والثاني من نوفمبر القادم، أما العامل الثالث فإنه يتمثل في الدعوة التي أعلنها وزير الخارجية التركي مولود شاويش أوجلو يوم الخميس 11 أغسطس الجاري بشأن أهمية تحقيق مصالحة «بشكل ما» بين الحكومة والمعارضة السورية، وأهمية أن تكون هناك «إرادة قوية للسيطرة على كل سوريا» وذلك بتعاون مختلف الأطراف المعنية وعبر «وحدة الصف.. لمنع تقسيم سوريا» ويعد ذلك تطورا في الموقف التركي حيال سوريا. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ما يلي:
أولا: بالنسبة للموقف التركي بشأن الدعوة للمصالحة في سوريا، فإنه بالرغم من إمكانية النظر إليه على أنه يعد امتدادًا للتغيرات التي حدثت في الموقف التركي من أطراف عربية وإقليمية، ورغبة أنقرة في بناء علاقات إقليمية أفضل، مقارنة بما كانت عليه على امتداد العقد الماضي، إلا أنه من المبكر القول بأن التصريح المشار إليه يشكل تغيرا كافيا في رؤية تركيا لما يجري في سوريا ودورها في مساندة أطراف معارضة معينة ومناهضة أطراف أخرى في مقدمتها «قوات سوريا الديمقراطية» (قسد) التي تصنفها أنقرة على أنها جماعة إرهابية.
يضاف إلى ذلك أنه في حين تحدثت أنقرة عن عملية عسكرية في شمال سوريا، وشنّت بعض الغارات في أوائل هذا الشهر، فإن تأجيل العملية العسكرية بسبب المعارضة الأمريكية والروسية والإيرانية لها -من منطلقات مختلفة- لا يعني تغييرا كبيرا في موقف أنقرة التي لا تزال تتحدث عن إنشاء منطقة عازلة داخل سوريا بعمق 30 كيلومترًا لحمايتها من عمليات الجماعات المناهضة لها، كما أنها لا تزال ترفض سحب قواتها المتواجدة داخل سوريا والتي تطالب دمشق بسحبها. وبرغم ذلك كله فإن دعوة شاويش أوجلو للمصالحة في سوريا تعد خطوة إيجابية في حد ذاتها، بغض النظر عن ارتباطها إلى حد كبير بالأوضاع الداخلية التركية وبإعداد الحكومة للانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية في العام القادم وبالرغبة في إعادة أكبر عدد من اللاجئين السوريين الموجودين في تركيا إلى ديارهم، فضلًا عن الاستجابة لبعض المطالب الروسية التي تدعو أنقرة إلى التواصل مع دمشق بشكل أو بآخر، وسوف تظهر الأسابيع القادمة حقيقة ومدى عمق الدعوة التركية للمصالحة في سوريا وتأثيرها على الأوضاع السورية خاصة أن هناك تنسيقًا روسيًا تركيًا إيرانيًا، كقوى ضامنة للهدوء في سوريا وقد عقدت في الأسابيع الأخيرة قمة طهران بين قادة الدول الثلاث، وأعقبتها قمة سوتشي بين بوتين وأردوغان حول التطورات في سوريا، وجاءت تصريحات أوجلو في أعقابها.
ثانيا: على الصعيد السوري، فإنه في الوقت الذي تحاول فيه حكومة الرئيس بشار الأسد تهيئة المناخ لتقارب متزايد على الصعيد الداخلي، وهو ما حقق تعاونا مبدئيا مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد) في عفرين مما أثار قلق أنقرة، فإن اجتماعات اللجنة الدستورية التي عقدت ثمانية اجتماعات منذ إنشائها عام 2019 من أجل اإعادة كتابة الدستور السوري، لم تتمكن حتى الآن من التغلب على الخلافات العميقة بين الحكومة وبين المعارضة وممثلي المجتمع المدني السوري نظرًا لتباعد الرؤية بين الجانبين حول الدستور والعملية السياسية وشكل الدولة السورية ونظام الحكم.
وبينما فشلت جولتا مارس ومايو هذا العام في تجاوز الخلافات، التي اتسعت رقعتها بسبب الحرب الروسية في أوكرانيا، والخلافات الروسية-الأمريكية، ومطالبة موسكو بنقل مقر اجتماعات اللجنة الدستورية من جنيف إلى مكان آخر بسبب تأييد سويسرا للعقوبات الغربية ضد روسيا، أكد المبعوث الدولي إلى سوريا «جير بيدرسون» أن عقد الجولة التاسعة من اجتماعات اللجنة الدستورية في جنيف التي كان مقررًا لها نهاية يوليو الماضي «غير ممكن»، ونظرًا للتأثير الكبير لكل من موسكو وواشنطن على مواقف الأطراف السورية -الحكومة والمعارضة- فإن استئناف اجتماعات اللجنة الدستورية لا يبدو قريبًا وهو ما يعرقل العملية السياسية في سوريا حتى يتحقق قدر أكبر من التوافق الروسي-الأمريكي وكذلك الإقليمي بشأن التسوية السياسية في سوريا والتي تشكل تصريحات وزير الخارجية التركي والانفراج النسبي في الموقف العربي حيال سوريا مؤشرات ذات دلالة بالنسبة لها.
ثالثا: على الصعيد العربي، فإنه من الواضح أن انفراجا ملموسا حدث بالنسبة للموقف العربي العام حيال سوريا وذلك بالتخلي عن مواقف متشنجة واستعراضية وغير صحيحة بمعيار القانون الدولي وتقاليد العلاقات العربية-العربية على مدى عقود.
ومن هنا استأنفت عدة دول عربية علاقاتها الدبلوماسية واتصالاتها مع سوريا، ويحسب لسلطنة عمان أنها لم تغلق سفارتها في دمشق وظلت على علاقاتها واتصالاتها وزياراتها المتبادلة معها طوال العقد الماضي، وقد أكد معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية في اتصاله مع نظيره السوري الأسبوع الماضي على «دعم سلطنة عمان لسوريا ومكانتها واستقرارها ووحدة أراضيها وأن تتخلص من أي تدخلات خارجية»، ومن ثم فإن سلطنة عمان تقوم بجهودها ومساعيها الحميدة حتى تتمكن سوريا الشقيقة من استئناف دورها الإيجابي والنشط على الصعيد العربي وفي إطار جامعة الدول العربية أيضا.
وفي هذا الإطار فإن التحركات والتحضيرات للقمة العربية الحادية والثلاثين التي ستعقد في الجزائر في الأول والثاني من نوفمبر القادم -وكان من المقرر عقدها في مارس الماضي- تعد على جانب كبير من الأهمية بالنسبة لسوريا والدفع نحو الحل السياسي فيها واستئناف دورها على الصعيد العربي، ومع الوضع في الاعتبار زيارة الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط للجزائر وتصريحاته لقناة «الجزائر» يوم 21 يونيو الماضي التي قال فيها «إن الأشهر القادمة ستشهد محاولة في اتجاه مشاركة سوريا في القمة العربية المزمع عقدها في الجزائر» وإشادته بالتحضير الجزائري «الجاد للغاية» من أجل إنجاح القمة، فإن تصريحات حسام زكي الأمين العام المساعد لجامعة الدول العربية للشؤون السياسية بشأن الحاجة إلى تكثيف التشاور في ظل غياب توافق بين أعضاء الجامعة بشأن عودة سوريا إلى الجامعة حتى الآن على الأقل «يجعل من الصعب توقع توقيت محدد لاستعادة العضوية» خاصة أن حسام زكي لم يستبعد التوصل إلى اتفاق وحسم هذه المسألة «قبل القمة أو بعدها».
ومع إدراك أن جامعة الدول العربية لا تعرف «الفيتو» على النمط الموجود في مجلس الأمن الدولي إلا في حالتين محددتين نص ميثاق الجامعة على ضرورة الإجماع بالنسبة لهما، وذلك من الناحية القانونية ونظام التصويت، ومن ثم فإن عودة سوريا إلى الجامعة لا تتطلب الإجماع وبالتالي فإنه من المأمول أن تتمكن الدول العربية من التوافق حول عودة سوريا إلى شغل مقعدها في الجامعة والمشاركة في قمة الجزائر حتى لا يتأجل الأمر عامًا آخر وحتى تعود سوريا إلى مكانها الطبيعي بين أشقائها.
