العمل عن بُعد «آخر كمامة»

13 أغسطس 2022
13 أغسطس 2022

لا ينكر اثنان بأن تجربة كورونا قد غيّرت العالم، وقد استطاعت هذه الجائحة خلال عامين تغيير معتقدات مُتجَّذرة، ومفاهيم عميقة وطرح تساؤلات واحتمالات ما كنا نرغب أو نجرؤ على النظر فيها!

الآن وقد رفعت اللجنة العليا آخر كمامة إجبارية تكررت عبارة العودة إلى الحياة، وقصد بها البعض العودة إلى حياة ما قبل الجائحة! مما دفعني للسؤال هل فعلًا نريد العودة؟ سأتناول بعض التساؤلات عما إذا كنا فعلًا نريد العودة؟ وعن ما تعنيه العودة!

الحديث عن العمل عن بعد هو محطتي الأولى! إذ كانت الجائح سببًا في تسارع تحقيق حُلم العمل من المنزل، وهو الحُلم الذي لم يغادر مخيلتي طوال سنوات عملي الإثنتي عشرة التي سبقت الجائحة! يمثل مقر العمل المكان الذي تقضي فيه أغلب ساعات يومك، وأكثرها إنتاجًا على الأغلب، وتتنافس الشركات العالمية في توفير بيئة عمل «مُغرية ومريحة» للموظف، وتدرس المؤسسات سيكولوجية الموظف وتقيس وتحلل مستوى الرضا الوظيفي لموظفيها بكل اهتمام، وتقوم بناءً على هذه الدراسات بتقديم خدمات ومميزات تُحسن من مستوى الرضا الوظيفي مما يؤدي إلى زيادة الإنتاجية، كأن تهتم المؤسسة بتوفير حضانات لأبناء الموظفين، أو توفر بعض الخدمات المشابهة لمكتب سند لإنجاز بعض المعاملات السريعة، كما توفر بعض المؤسسات ركن الترفيه وقد وصل الأمر بالبعض لتوفير الحلاقين وخدمات غسيل وكي للملابس! وكلها خدمات تتم بالتعاقد مع مؤسسات صغيرة.

أثناء فترة تدريبي في شركة شل الهولندية أدهشي تخصيص يوم الجمعة للعمل من المنزل -لمن يرغب- وعندما سألت عن السبب أدهشي بأن أغلب المدارس تُقيم فعاليات ليشارك فيها الآباء والأمهات يوم الجمعة ولرفع الحرج عن الموظف وتعميق قيمة مشاركة الأهالي أنشطة أطفالهم تقرر جعل الجمعة يوم عمل من المنزل، وبذلك يتمكن الموظف والموظفة من حضور أنشطة المدرسة بكل سهولة!

والآن وقد انتهت الأزمة وقد مررنا بفترة تجريبية إجبارية للعمل من المنزل أو العمل عن بعد، هل قمنا بتقييم هذه التجربة؟ هل نرى جدوى من تطبيق نظام أكثر مرونة فيما يتعلق بـ«مكان» العمل و«ساعات» العمل؟

قد تكون تجربي من الشركة التي أعمل فيها تجربة «فاخرة» إن صح التعبير فنظام العمل من المنزل كان تحت دراسة وخضع لفترة تجربة قبل وصول الجائحة، مما جعل تقبل العمل عن بعد أكثر سلاسة رغم التحديات التي لا ننكرها، مما جعل فكرة «العودة» للعمل المكتبي بشكل كامل تراجع غير مقبول!

تؤكد دراسة أُجربت على أن 8 من أصل 10 يفضلون العمل من المنزل على العمل المكتبي السابق! ويظهر أن الغالبية تُطالب بنظام عمل أكثر مرونة مُشابه لحد ما لما تم تطبيقه فترة الجائحة، مما يؤكد تطوير ثقافة العمل كنتيجة للتغيرات التي طرأت فترة الجائحة.

وإذا ما سألت ماذا أضاف لنا العمل عن بعد؟ يقول زميل لي إنه عاد إلى البلد، وأنه قضى وقتًا أطول مع والديه! عاد إلى الفلج والزراعة وأعاد ترتيب حياة، وأصبحت الحياة تشبهه أكثر! كما أكدت زميلة أخرى أن تحدي العمل عن بعد كامن في قوة شبكات الاتصالات في منطقتها وبأنها «ارتاحت» من زحمة الصباح و«وفرت» طاقتها للعمل والإنجاز.

«فترة الذهبية» هكذا قالت زميلة أخرى معلقة، فتجربة الأمومة مع العمل من المنزل أزاح عنها 90% من توتر الأم التي تضطر إلى ترك طفلها الذي أوصتها الطبيبة برضاعته، فتتركه وهي الكارهة لتركه لساعات وساعات مع عدم جدوى ساعات الرضاعة لبعد موقع العمل عن المنزل وعدم توفر حضانات أو حتى غرف للمرضعات - وهذا حديث طويل ذو شجون -!

بالنسبة لي كان العمل عن بعد حُلمًا أترجمة بالحصول على ما يقارب من 10 ساعات إضافية كل أسبوع كنت أقضيها في زحام الشارع، والآن استطيع استخدامها في أمور أكثر جدوى وأعلى قيمة، فإذا ما نظرنا إلى نسبة العاملين من ولاية السيب مثلًا الذي يشاركون في رحلة المسيرة اليومية في الطريق إلى شارع الوزارات وما بعد باتجاه مسقط، وإذا ما حسبنا معدل الزمن المتوقع لرحلة المعبيلة إلى الخوير صباحًا فنحن نهدر وقت وجهد الآلاف مع عدم وجود حلول للزحام! فهل سألنا كم موظف يَشعر بأنه استنزف طاقته فقط في الطريق إلى العمل؟!

في دراسة نشرت نتائجها صحفية الشرق الأوسط، يقر أصحاب العمل بزيادة الإنتاجية لدى موظفيهم العاملين من المنزل، مما يدعم رغبات الموظفين وأصحاب الأعمال في الحصول على «حل وسط» بين العمل من المنزل بشكل كلي والعودة إلى ما قبل كورونا والعمل المكتبي بشكل حصري، إذ لا يمكنهم تجاهل تقليص إنفاق أصحاب الأعمال على الخدمات الأساسية كالكهرباء والماء مما يوفر لهم منفعة إضافية يمكن قياسها ماديًا، مما يجعل تقبل العمل عن بعد أو نظام الهجين الذي يجمع بين العمل المكتبي والعمل عن بعد مكسبًا حتميًا لأصحاب العمل والموظف معًا.

لم يكن الوقت مناسبًا لإعادة النظر في ساعات العمل ومقر العمل أكثر من الآن، والخطوة التي اتخذتها الحكومة في إضافة المرونة لساعات العمل هي خطوة مهمة للتمهيد لإعادة النظر في ثقافة العمل في سلطنة عمان، فنحن بين دروس تعلّمنا منها في فترة الجائحة، ومجال خصب ومهم للباحثين، دعونا نستفيد ونطوّع ما يمكن تطويعه لتحسين جودة العمل ورفع مستوى الرضا الوظيفي.