أفق جديد للبحث والتطوير المؤسسي

02 يوليو 2022
02 يوليو 2022

تقترح هذه المقالة إعادة التفكير في أقسام البحث والتطوير (داخل المؤسسات الحكومية) ونركز على المؤسسات الحكومية؛ لكون أن مؤسسات القطاع الخاص تتفاوت في هندستها لبناء استراتيجيات البحث والتطوير حسب القطاعات التي تعمل فيها وحسب حجم هذه المؤسسات وحسب طبيعة ارتباطها بحركة الاقتصاد والتجارة العالمية وحسب مقتضيات تنمية عناصر الإنتاج التي تدخل في أعمالها. وقد تكون هناك تجارب (فضلى) يمكن الاسترشاد بها والتنبه إلى هيكلتها في السياق المحلي، غير أن ما نركز عليه هنا هو ضرورة إعادة النظر في تجديد جلدة/ استحداث/ تطوير أقسام البحث والتطوير داخل منظومات العمل الحكومية المختلفة. تنضوي الهياكل الحالية لبعض المؤسسات الحكومية على مديريات/ دوائر للبحوث والدراسات أو مكاتب فنية تعنى بالدراسات والتطوير. غير أن ما تقترحه المقالة الحالية هو توحيد نهج وممارسات وأدوات البحث والتطوير وفق حوكمة معينة داخل المؤسسات الحكومية تقتضي تحديد تبعية هذه الأقسام واختصاصاتها ونهج العمل فيها والأدوات المتاحة لها وبنود الموازنات المخصصة لها بالإضافة إلى المُخرجات المطلوبة منها على مستوى المؤسسة داخليًا وعلى مستوى القطاع الذي تنشط فيه المؤسسة.

إذن ما الغاية من ذلك؟ نسوغ ذلك أولًا بما يرسمه التحول التنموي الراهن في رؤية عُمان 2040 وتحديدًا في أولوية "حوكمة الجهاز الإداري للدولة والموارد والمشاريع". إذ تُفصح هذه الأولوية عن السعي لجهاز إداري "يتسم بدرجة عالية من المرونة والفعالية، تقوم فيه مؤسسات الدولة بتقديم خدماتها بأفضل الوسائل والطرق الحديثة". وقد حُددت الرؤية لترجمة ذلك هدفين استراتيجيين يلامسان ما نطرحهُ هنا وهما:

1- قرارات حكومية ذات توازن وموثوقية.

2- قطاع حكومي فعال في مجال التخطيط والتنظيم والمتابعة والتقويم وذو هيكلة قطاعية ويستشرف المستقبل.

ما نتوقعه لدور هذه الأقسام هو تجاوز الشكل التقليدي للبحوث والدراسات والاستشارات التي تأخذ المنحى الأكاديمي أو "التمدرسي" إلى إنتاج أوراق تفاعلية وتقديم استشارات تحديثية ورفع توصيات عملية قابلة للتنفيذ بشكل فعال وديناميكي والبحث في أفضل ممارسات القطاع الذي تنشط فيه المؤسسة والبناء على تلك الممارسات سواء من ناحية آليات العمل أو المنتجات أو هيكلة الخدمات أو الاستراتيجيات. كما ستعنى هذه الأقسام بالتنبيه إلى المخاطر وبالبحث في أفضل التجارب لمواجهتها وهذا العمل سيتم باليومية والديناميكية. فالمنتظر من هذه الأقسام ليس إنتاج بحوث تفصيلية وإنما خلاصات لصانعي السياسات على المستوى الأعلى داخل المؤسسات وعلى مستوى بدائل إجرائية للعاملين والقيادات الوسطى داخل المؤسسات لتطوير نهج العمل ومنتجات المؤسسة عمومًا. ستعمل هذه الأقسام من الجانب الآخر بالتركيز على رصد الرضا المجتمعي عن الخدمات واعتبار العميل/ المستفيد/ المواطن العنصر الذي تتمحور حوله عمليات المؤسسة – إن كانت المؤسسة خدمية – أو اعتبار جودة السياسة العامة العنصر الأساسي الذي تتمحور حوله عمليات المؤسسة – إن كانت المؤسسة متصلة برسم السياسات العامة دون الخدمات – وكل ذلك سيرتهن في المقام الأول بمستوى تمكين هذه الأقسام واتضاح علاقتها بالتكوينات الأخرى داخل هياكل هذه المؤسسات بالإضافة إلى الاعتراف بأهمية وجود بنود في الموازنات تخصص لأغراض البحث والتطوير في المقام الأول. وإمداد هذه الأقسام بأفضل الاختصاصيين والخبراء القادرين على رصد مشهد القطاع/ الخدمة عالميًا والتحديثات التي تطرأ عليه بما يشكل رصيدًا معتبرًا من الخبرة المتراكمة للمؤسسة يمكنها من المساهمة في صنع قرار حكومي (متوازن وموثوق) – حسبما تشير إليه الرؤية – في مقالتها بعنوان: "Building an R&Dstrategy for modern times" تحدد مجموعة ماكينزي أربعة اتجاهات رئيسية لبناء نهج البحث والتطوير في المؤسسات اليوم وهي:

1- دورات الابتكار تتسارع.

2- البحث والتطوير يفتقر إلى الاتصال بالعميل.

3- المشاريع لديها القليل من مقاييس المساءلة.

4- المشاريع المتزايدة لها الأولوية.

وبالتالي فإن ضمان الفاعلية لهذه الأقسام في تقديرنا يجب أن ينطلق من خلال دراسة سلسة الخدمة/ الإجراء/ المنتج الذي تقدمه المؤسسة وتحديد كافة مراحله وتضمين نهج البحث والتطوير في كل مرحلة من تلك المراحل ابتداء من المراحل التحضيرية إلى مرحلة إشهار المنتج/ الخدمة/ الإجراء وهذا يتطلب في الآن ذاته رصد الابتكار المتسارع المشار إليه ليس فقط على مستوى التقنيات والأدوات المادية أو النظم ولكن حتى على مستوى نهج التعامل والأدوات وسياقات التحليل والتخطيط الاستراتيجي فكلها خاضعة للابتكار والتجديد المستمر. كما أن أحد الضمانات لفاعلية هذه الأقسام أن تكون هي من يحدد حول من يتمحور عمل المؤسسة وعليه فإن نموذج العمل والتطوير يتجسد حول تلك الوحدة ويتم تزويد كافة أقسام المؤسسة الأخرى بأحداث التوجهات والممارسات ويقترح لها أفضل الأدوات لتطوير نسيجها عملها بما يخدم الأهداف الكلية للمؤسسة.

إن ضرورات هذا التوجه يفرضها أن عمل هذه المؤسسات ليس في معزل عن مثيلاتها في العالم وأن ما تمارسه بقية المؤسسات عالميًا يمكن أن يستفاد منه ويبنى عليه. وأن طبيعة المخاطر المحدقة بقطاعات العمل المختلفة إنما هي ذات صبغة عولمية وبالتالي فإن تطوير أدوات التعامل والتعاطي والمواجهة والاحتواء لن تكون سياقًا مبتدعًا وإنما من خلال تلاقح التجارب والمنظورات وتطوير الممارسات الفضلى. ثم أن الابتكار في عمومه والذي ستضمنه هذه الأقسام إنما هو كفيل بتسريع دورة العمل الإداري واختصار هندسة إجراءاته وإمداد القيادات بخيارات أكثر مرونة لتسيير العمل في هذه المؤسسات وعبر القطاعات. تشير توقعات التمويل العالمي للبحث والتطوير في عام 2019 الواردة في مجلة R&D world أن في عام 2019 وحده، أنفقت المؤسسات في جميع أنحاء العالم 2.3 تريليون دولار على البحث والتطوير – بما يعادل 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي - جاء نصفها تقريبًا من المؤسسات العامة في قطاع الصناعة والباقي من الحكومات والمؤسسات الأكاديمية. فيما نما الاستثمار السنوي في البحث والتطوير المؤسسي بنسبة 4% سنويًا على مدار العقد الماضي. وفي تقديرنا فإن ما عايشه العالم خلال الثلاثة أعوام الماضية من أحداث وتجاذبات صحية واقتصادية وسياسية وضرب سلاسل الإمداد والتوريد وتعطيل الأعمال التجارية وتقييد الاقتصادات العالمية يجعل من نهج البحث والتطوير مستلزمًا مؤسسيًا يشترط التفاعل والحيوية مع التدابير والإجراءات والتواصل مع العالم وتطوير المقاربات المشتركة لتجويد العمل في كافة القطاعات.