هوامش ومتون: دمُ الثيران المجنّحة

11 مايو 2022
11 مايو 2022

عند زيارتي المتحف العراقي، لم تفارق ذاكرتي صور نهب الآثار، التي عرضتها الفضائيّات، وبثّتها وكالات الأنباء عام 2003 وخراب مرافق المتحف الذي يعود تاريخ تأسيسه إلى 1926، ذلك الحدث أوجع الضمير العالمي، فكيف بي وأنا الذي كنت أتردّد عليه في سفراتنا المدرسية؟ وكانت زيارتي الأولى له ببنايته الحاليّة الكائنة في منطقة العلاوي، مطلع السبعينيات، أي بعد سنوات قليلة من افتتاح أبوابه عام 1966م، وكانت نواته الآثار التي جمعتها عالمة الآثار البريطانية غيرتورد بيل (المس بيل) ووضعتها في غرفة بمبنى السراي (القشلة) بين عامي 1922-1924 حتى ضاقت المساحة بما تجمّع من قطع أثرية، فانتقل مكان المتحف إلى شارع المأمون، ثم بُنيت بناية المتحف الذي طال محتوياته ما طال العراق من أحداث عصفت به ولم تستثن تاريخه، فالدول التي بلا ذاكرة يرعبها كل ما يمتّ للذاكرة بصلة، وما اللُقى الأثرية، والمسكوكات، والأختام، والقطع الحجرية التي نقشت عليها رسومات وأحرف بالخط المسماري، إلّا تأكيد على أصالة المكان، وعمق جذوره، وصلابة إنسانه، لذا وجّهت الأنظار للمتحف، فدبّ الخراب به، وسرق (لصوص التاريخ) ما سرقوا، يومها تناقلت وكالات الأنباء صورة الصديقة الشاعرة أمل الجبوري، وهي تبكي ملكا مضاعا!، وقد احتلّت تلك الصورة ومشهد الخراب الذي رأته جانبا من حديث جمعني بها، استحضرت خلاله دموعا سكبتها حين رأت رأس تمثال، وقد تهشّم، فانقسم إلى قسمين، وأيا كان سبب التهشيم، فالتاريخ يبقى هدفا للمخرّبين والغزاة الذين سرقوا من المتحف آلاف القطع النادرة، ويؤكّد المختصون أنه أعيد ثلثها، وآخرها "حلم جلجامش" الذي يقدّر عمره بـ3500 عام، عاد ( الحلم) ليحتلّ موقعه في بيته، المتحف العراقي، ولكنه لم يمسح قطرات الدم التي سالتْ من رأس ذلك التمثال، يقول الشاعر جواد الحطّاب:

"لا راياتِ لربّ الجنود

على أسوار بابل

لا راياتِ

دمٌ على الأختام"

لقد عدّ الكاتب محمد خضير حادثة نهب المتحف العراقي وتهريب محتوياته في 2003 م "حدّا فاصلا بين هويتين، إحداهما جذرية أساسية، والأخرى انفصامية طارئة"، وحين سُئل عن العلاقة التي تربط حادثة نهب المتحف، وما يجري على أرض الواقع، أجاب" كتب المفكر بودريارد عن هذه العلاقة في وقتها. إذ حلّل السبب في غزو الدول الفقيرة حضاريا للدول المتحضرة، وتمزيق هويتها أملا في نوع من التعويض الرمزي عما تفتقر إليه، العراقيون أغنياء برأسمالهم الرمزي الذي تمثله الهوية الرافدينية، وهزيمتهم في تخليهم عنها"، ولم يتخلوا عنها، فقد ظلّ المتحف يقاوم الخراب، فأعيد ما أمكن إعادته من آثار منهوبة، ليفتتح في فبراير 2015 م، ثم أغلق بعد اضطراب الأوضاع الأمنية وتفشّي الجائحة، ليعاد افتتاحه، بعد صيانة بعض قاعاته، وتأهيلها، واسترجاع بعض الآثار التي سرقت إلى مكانها، فكان لابدّ لي من زيارته برفقة الإعلامي علي الكناني، والشاعرة الأردنية جمانة الطراونة، وسررتُ كثيرا عندما رأيتُ تمثال عالم الآثار طه باقر يقف منتصبا عند بوابة المتحف، فالتقطت صورة للتمثال بعثتها لتلميذه عالم المسماريات، واللغات القديمة د. نائل حنّون، فسرّ بها، وعند دخول بوّابة المتحف الداخلية كان علينا أن نشقّ طريقنا بصعوبة، وسط حراسات أمنية مشدّدة، وطوابير السيّاح، وطلّاب المدارس، مع التشديد في التفتيش عند الدخول والخروج، على حدّ سواء، وكلّ ذلك كان يجري بسلاسة، وتفهّم من الزوّار، فهذا المكان يحتلّ موقعا فريدا في الذاكرة الإنسانيّة، وليس فقط الذاكرة العراقية، فحضارة وادي الرافدين مشهود لها في تاريخ البشرية، وقد ضمّ هذا المتحف جانبا من منجزات تلك الحضارة التي تعود إلى ما قبل ثلاثة آلاف عام وقد مرّت بمراحل من السومرية إلى البابلية، والآشورية، وانتهاء بالأكدية إلى جانب الآثار الإسلامية، وقد لفتت أنظارنا ضخامة تماثيل الثيران المجنحة الآشورية التي رأيت بعضها في متحف اللوفر بباريس، ويظهر التمثال معتمرًا غطاء الرأس المقرن وتظهر فيه ثلاثة أزواج من القرون، وكانت تنصب بأزواج في مداخل القصور الآشورية، فهي بمثابة أرواح تحرس المداخل من ولوج الشر والأرواح الخبيثة، لكن الكثير من هذه التماثيل كسرتها معاول (داعش) أثناء سيطرتها على الموصل، لذا كان علينا أن نمسح، بزيارتنا، قطرات دم تخثرت على أحجار الثيران المجنّحة.

* عبدالرزاق الربيعي كاتب وشاعر عماني ونائب رئيس مجلس إدارة النادي الثقافي