العيد.. وأثر الزمن
المقال.. يرصد التحوّل الذي حصل نتيجة التحول الاجتماعي إثر تغيّر بُنية المجتمع وفق هيكلة الدولة الحديثة، وذلك بما عايشته من أسلوب حياةٍ أيامَ العيد خلال الطفولة. إن استعادة ما احتفظ به الذهن منذ أربعين عاماً أصبح يشكّل جزءاً من الذاكرة الاجتماعية، ويختزن تجربة إنسانية، ويكشف عن مرحلة من تطور السلوك البشري. هنا أرصد جانباً من الحياة الآفلة التي عشنا جمالها اليافع في عيدي الفطر والأضحى في مدينة بَهلا.
فقهاً.. لا يوجد فارق في صلاة العيدين بين المسلمين تقريباً، بيد أن كل مجتمع يكيّف الخطبة بما تناسبه، وهي تحكي طبيعة الاجتماع الذي يمر به، مما يكشف عن التغيّر الذي لا تسلم منه الحياة؛ حتى في معتقداتها. ومما أدركته.. أن الخطبة لرتابة الحياة حينها لا يكاد موضوعها يختلف من عام إلى عام. بعكس ما هو سائد الآن؛ حيث إن الخطبة تتفاعل مع تسارع حركة الزمن، فأصبحت تتكلم عن قضايا متنوعة؛ خاصةً.. التي تلّم بالمجتمع، أو تحدث في العالم فيتردد صداها في مواقع التواصل الاجتماعي. ورغم أن الخطبة الآن عندنا مأطرة بسياسة الدولة، التي تمنع إثارة الحساسيات الاجتماعية، لكنها لا تخلو من التناوش حول بعض المسائل الفقهية.
وكما أن الخطبة اليوم تتنوع في مواضيعها؛ كذلك يتبدل من يؤم للصلاة، في السابق كان شخصاً واحداً، وهو جدي القاضي علي بن ناصر المفرجي (ت:2008م)، فلا أذكر منذ منتصف السبعينات حتى منتصف الثمانينات أن أمَّ الناس غيره، وكان موضوع الخطبة أيضاً واحداً. فعيد الأضحى.. تقتصر خطبته على التكبير، وتذكير الناس بربهم، وذكر مناسك الحج، والدعوة إلى تقديم الأضحية. فرؤيا النبي إبراهيم ذبح ابنه إسماعيل، واستسلام الابن لأبيه، وفداء الله له بكبش سمين، لا تزال عالقة في أذهاننا بصوت القاضي الشجي، بالأداء العماني الذي لم نعد نسمعه الآن. وكنا نسرح بخيالنا في مراتع طفولة البشرية، حيث يقدم الإنسان للإله أضاحيه من البشر، حتى أبدله الله ببهيمة الأنعام. وكان الإمام يقدّم للقصة في الصلاة بقراءة الآيات الدالة عليها من «سورة الصافات». أما عيد الفطر.. فخطبته تشتمل على ذكر فضائل رمضان، وحث الناس على قيامه وصيامه والاعتكاف فيه. كانت أجسادنا الطرية تقشعر والخطيب يقرع مسامعنا بأوصاف النار؛ وعيداً لمَن يخون صومه أو ينتهك حرمته، وما هي إلا لحظات فتنتعش قلوبنا جذلاً بذكر العيد جائزةً للصائمين، وبالحث على صلة الرحم، التي تعني لنا العيدية ومرح الطفولة. ويتميز عيد الفطر بأنه في ليلة منتصف رمضان توزع مبالغ لمن يؤدي صلاة التراويح جماعةً في المسجد، وتكون بحسب عائد الأوقاف المخصص لها، وتسمى هذه الليلة «العقبة».
الفرح.. يتقدم العيد، هكذا نشعر عندما تأتي «الهبطة»؛ وهي الأيام الثلاثة التي تسبق العيدين، حيث ينفلنا أهلنا نقوداً معدودة، نضيفها إلى ما نحصل عليه من «العقبة»، لنذهب إلى «الهبطة» في السوق، بملابسنا جميلة، وتتميّز البنات بملابسها الزاهية وحليها الأنيقة، فنشتري من «التباريز»؛ وهي دكانات يصف فوقها التجار بضاعتهم المتنوعة كحديقة أورقت بفرائد الزهور والورود، من حلويات وبسكويت وألعاب وهدايا، وكان سعرها في متناول نقودنا. وفي قلب السوق.. نشهد جانباً من حلقة مناداة الأغنام، ثم نمرّ على الأبقار مربوطة في رِكَزها ريثما تنتقل إليها المناداة.
رغم عدم دخول الكهرباء إلى بيوتنا؛ إلا أن ليلة العيد كانت تضيء بزيت الفرح، ننتظر بشوق منذ النهار المدفع يعلن بطلقاته المهيبة حلول العيد السعيد، فترقص أجسادنا معلنة عمّا انبلج في قلوبنا من حماس مفرط، ولمّا كبرنا قليلاً ذهبنا إلى الحصن لنرى عن قُرب ما كنا نسمعه عن بُعد. ولحظة إعلان العيد.. نبدأ في مساعدة أهلنا بالإعداد له، من تقطيع اللحم «للتصبيحة»، وترتيب مستلزمات القهوة من صحون وفناجين وتمر وحلوى وفواكه، حتى يُهيأ لنا بأننا ننظم النجوم في السماء. ونختم ليلتنا بتجهيز ملابس العيد؛ استعداداً لارتدائها في الصباح. ويسبق ذلك بليلتين تزيين الأطفال، حيث تخضب كفوف أيدينا وبطون أقدامنا بالحناء، أما الإناث فبالإضافة لذلك.. تسرّح لهن شعورهن، لتعلو جباههن «الحروف» الذهبية، وتتدلى على صدورهن «الخِتَم» الفضية.
بعد صلاة الفجر.. يتجه الرجال نحو مجلس الحارة «السبلة»، أما نحن الصغار فنتبع إخوتنا الكبار وهم يحملون صحون الأكل. يصطف الأطفال خارج السبلة؛ صفين متقابلين؛ صفاً للذكور وصفاً للإناث. يستقر الكبار في بطن المجلس، يهنئ بعضهم البعض، ثم تُقرّب الصحون، فتعبّر عن فرحها بتنوع مأكولاتها، فهذا صحن الهريس من القمح، وقد امتلأت عينه بـ«الترشة»؛ وهي مرقة من اللحم ودبس التمر والخل والزبيب، ثم يتلوه صحن العرسية المعصودة بالأرز المرشوش بالسمن، ويلحقه صحن الأرز مخبئاً في وسطه لحماً أو دجاجاً. وبعد تناول «التصبيحة»؛ تأتي فرحتنا الكبرى، حيث يقوم الرجال بتعييدنا، فالميسور منهم يعيّد بالقطع المعدنية، ومن دونه يكتفي بالجوز و«دنجو السبال»؛ الحمص المقلي، و«القشاط»؛ حلوى السمسم، والشاكليت والبسكوت، وكنا نمد لهم أغطية رؤوسنا «الكميم»، ليستقر فيها كل ما تجود به هذه الأصبوحة الجميلة، أما البنات.. فقد خصصن لذلك حقائب قماشية؛ يجهزنها قبل أيام من العيد.
يوم العيد.. ننطلق نحو المصلى وأرجلنا خفاف لا تكاد تلامس الأرض كأطيار نفشها شعاع الشمس الذهبي، ونمرّ على الرجال؛ وهم يكبّرون الله ويحمدونه، فتتهلل قلوبنا بندي صوتهم. وبعد صلاة العيد نرجع فيسلمنا الطريق إلى صف من «تباريز» الباعة، التي علينا أن نخترق الزحمة لنصل إليها، ونشتري «النفاخات» و«مسدس بوفتاك»، ولا ننسى القشاط، وحتى اليوم لا يزال يغريني بأكله، رغم امتناعي عن السكر. ثم نذهب إلى أرحامنا للتصبيح بهم وتهنئتهم، ونبدأ بكبار السن لنرسم على وجوههم الابتسامة، ويوزعون هم على قلوبنا المحبة، وعلى جيوبنا العيدية. ثم نؤوب إلى البيت ظهراً، لنكمل ما بقي من يومنا مع حصيلتنا من الألعاب والحلويات.
في صباح اليوم التالي للعيد؛ ويسمى يوم الذباح ويوم المشاكيك.. نذبح شاة، أما اليوم.. فالأبقار هي القرابين المفضلة؛ ويبدو أنها مفضلة منذ آلاف السنين، من خلال ما وجدنا دلائله على الرسمات الصخرية، وإنما يضطر حال الناس أحياناً للعدول عنها إلى الأغنام. وبعد عملية الذبح الأليمة التي نتلذذ بمشاهدتها؛ نؤوب للبيت لنساعد أهلنا في إكمال تقطيع اللحم، فمنه للمشاكيك، وآخر للقلي، وثالث للشواء. فأما المشاكيك فتقسم قسمين: أحدها.. يبقى للبيت، والآخر.. يوزع للأهل والجيران. ثم بعد الظهر يجتمع أهل الحارة عند السبلة بلحم الشواء لتبزيره؛ بغمسه في الأبزرة الممهاة بالخل، ثم يحشى في «جونية خيش»، متخللاً ورقُ الموز طبقاتِ اللحم، وتوضع عدة «جواني» في ظرف سعفي. وبعد صلاة العصر.. ترمى الظروف في التنور المَصْلِي بجذوع السدر والسمر، فيغلق بإحكام حتى لا تتسرب الحرارة. وفي اليوم الثالث؛ «يوم الشواء»، يستخرج اللحم من التنور قبيل صلاة الظهر، وكان الفتية قبل غلقه وفتحه يقيمون الرقصات الشعبية، ويؤكل الشواء مع الأرز على الغداء، ولا يحلو إلا بالمشروبات الغازية.
عادات العيد بسيطة؛ لكنها كافية بأن تروّح عن نفوسنا، وها هي بعض هذه العادات بدأت بالاختفاء، فلم تعد السبلة تجمع أطفالنا لتلقي العيدية، كما أصبحنا نعمل الشواء في البيت، وفقدنا مواكب الناس وهم متجهون إلى العيد، يرفعون عقيرتهم بالتهليل والتكبير، بعد أن اختفوا في بطون سياراتهم التي تزدحم بها الطرقات.
للزمن أثره العميق على الحياة، ولكن الإنسان بطبيعته يتعلق بماضيه، وكما نحِنُّ لطفولتنا ستكبر أجيال اليوم فتحنّ لهذا الزمن، وهكذا تمضي الأيام بعاداتها وطقوسها؛ تخلق كل حين فرحها المتجدد.
