نوافذ.. صمت عبدالعزيز
قبل أسبوعين فقط من رحيله كتب عبدالعزيز الفارسي في دفتر يومياته: "كم من إشارة أعطيتُ لم يفهمها أحد. الصمت، ثم الصمت، حتى آخر رمق". ولأننا - نحن أصدقاءه وزملاءه في مهنة الطب وورطة الكتابة - لا نجيد إلا لغة الثرثرة والكلام الممطوط، ولأننا لا ندرك جلالة الصمت الذي يحتاج إلى موهبة كبيرة كما أخبرنا دستيوفسكي، فإننا لم نستشعر إشارات عبدالعزيز وتركناه يرحل في الصمت؛ الصمت الذي أخبرنا بكل شيء.
قليلون من باح لهم عبدالعزيز الفارسي بمرضه، وحتى هؤلاء القليلون لم يقفوا تمامًا على خطورة هذا المرض، من فرط ما كان يتحدث عنه بهدوء الأطباء لا بقلق المرضى. كانوا واثقين أنها سحابة صيف عابرة سيبددها عبدالعزيز بصلابته المعهودة التي لطالما أذكت القوة في المرضى وبذرت فيهم الأمل بالحياة، لكأنه كان تجسيدًا لفلسفة كيركيغارد: "إن تشخيص الحالة الحالية للعالم بأكمله والحياة عمومًا هي المرض، لو كنتُ طبيبًا وسُئلتُ عن العلاج؛ فسوف أجيب: الصمت".
من يعرف عبدالعزيز جيدًا يعرف أن الصمت جزء مهمّ من فلسفته في الحياة. إذا ما رأى شمسًا تغرب أو ساقية تجري أو طفلًا يركض، فإنه لا يعبّر عن دهشته بشهقة إعجاب أو حفنة من الكلمات، وإنما بالصمت الذاهل. إنه يُنصت أكثر مما يتكلم، وإذا ما تحدث بعد هذا الصمت فإنه يقول كلامًا كثيرًا في كلمات قليلة. تمنت فرجينيا وولف يوما أن تكتب رواية عن الصمت، عن الأشياء التي لا ينطق بها الناس، ماذا لو أنها أدركت زمن عبدالعزيز أو أنه عاش في زمنها؟ لا أخالني مبالغًا إن قلت إنه سيكون أحد ملهميها لكتابة هذه الرواية، وربما يقرأ مخطوطتها الأولى قبل النشر ويدلي لها بملاحظات ثاقبة تُثري النصّ وتعمّق أحداثه وشخوصه، تماما مثل ما فعل مع هدى حمد في روايتها "الأشياء ليست في أماكنها"، ومع كاتب هذه السطور في روايته "الذي لا يحب جمال عبدالناصر".
من يعرف عبد العزيز أيضًا يعرف أن الصمت مكوّن مهم من مكونات كتابته. هو يدرك جيدًا أن الصمت جزء أساسي من اللغة، وأن المسكوت عنه أحيانًا أهم بكثير مما قيل. في روايته "تبكي الأرض يضحك زحل" يتفنن في استدعاء الصمت في لحظات أبطاله المهمة. على سبيل المثال يسرد خالد بخيت (الذي هو بالمناسبة أقرب شخصيات الرواية شبهًا بعبدالعزيز) عن لقائه الأول بحبيبته عبير، ذلك اللقاء الذي لم يتبادلا فيه سوى جملتين قصيرتين و"ما تبقى من حديث، كان صمتًا. الصمتُ بين اثنين يعرفان بعضهما مليار عامٍ أو يزيد. عاشا في نفس البراري، والكهوف. زارا نفس الصحاري. تسامرا على نفس الضفة من النهر العذب. عاشا تطوّر الحضارة لحظة لحظة"، وفي موضع آخر من الرواية يسرد خالد بخيت حكايات لأهل قريته عن كوكب زحل وأهله وشعرائه، ويسألهم: "هل فهمتم؟" وحين يجيبون: "نعم. كلام جميل. كلام عميق"، يظهر الحزن على وجهه ويقول: " الناس في زحل لا يستطيعون التعليق على هذا الكلام إلا بالصمت". أما بطل الرواية الآخر زاهر بخيت فقد كان الصمت المبجّل أحد أهم صفاته: "هو لن يخبرك شيئًا" تقول زوجة ابنه لولدها خالد، وتضيف: "يريد كعادته إتمام كل شيء في صمت، وحسب طريقته".
صَمَتَ عبدالعزيز الفارسي إذن حتى آخر رمق، تاركًا مهمة الكلام لمرضاه الذين غمرهم بنبله، وقرائه الذين أدهشهم بنصوصه، ولأصدقائه وزملائه الذين صدمهم برحيله المباغت. ولأن أي كلمات اليوم في رثائه لن تستطيع التعبير عن حجم الخسارة والفقد، فالأحرى بنا جميعًا أن نتشبّه به ونلوذ بالصمت.
