رومان أبراموفيتش: ما طار طيرٌ وارتفع...
قبل عام 2003م لم تكن أوروبا ولا العالم العربي يعرفون رجلًا يُدعى رومان أبراموفيتش، رغم أنه كان مليارديرًا كبيرا حينئذ. المنعطف الواضح في شهرة رجل الأعمال الروسي هذا كان شراءه لنادي تشيلسي الذي كان آنذاك ناديًا عاديًا من أندية الدوري الإنجليزي، قبل أن يُصبح في عهد المالك الجديد واحدًا من أهم وأقوى أندية العالم، ويُتوَّج خلال فترة رئاسة أبراموفيتش بلقبين في دوري أبطال أوروبا، ولقبين آخرَيْن في الدوري الأوروبي، وخمسة ألقاب في كأس الاتحاد الإنجليزي، وثلاثة ألقاب في كأس الرابطة، ولقب واحد في الدوري الممتاز.
قبل ذلك، أدرك أبراموفيتش مبكّرًا وهو لم يزل شابًا لم يبلغ الثلاثين بعدُ، أن المال لا يُمكن أن ينمو ويتكاثر إلا في حضن سلطة تحميه، فموّل حملة بوريس يلتسين لرئاسة روسيا عام 1991م، جانيًا ثمرة ذلك الكثير من التسهيلات التي قدمها له الرجل المريض، أهمها على الإطلاق شراؤه مع شريكه الملياردير الروسي الآخر بوريس بيريزوفسكي شركة النفط العملاقة "سيبنفت" بثمن بخس لا يتجاوز جزءًا صغيرًا من قيمتها السوقية، التي سيستحوذ عليها بمفرده بعد عدة سنوات، ثم سيبيعها بعد سنوات أخرى إلى شركة غازبروم المملوكة للدولة الروسية مقابل ثلاثة عشر مليار دولار. وفي عام 1999 موّل رجل الأعمال الروسي حملة فلاديمير بوتين للرئاسة، الأمر الذي لم ينسَه له بوتين، فقرّبه وجعله من خاصة خاصته.
بعد شرائه تشيلسي، كان يُمكن لأبراموفيتش أن يقضي ما تبقى من حياته في بريطانيا متنعمًا بالمال والنفوذ والشهرة التي أغدقها عليه هذا النادي، لولا أن صديقه بوتين قرر عام 2014 أن يدخل أوكرانيا ويضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا. منذ هذا التاريخ بالذات بدأت متاعب الملياردير الروسي الذي كلما عطستْ أوروبا غضبًا في وجه بوتين امتد بصاق العطسة إلى وجه أبراموفيتش، وفاقم هذا الغضب محاولة بوتين اغتيال المعارض الروسي سيرجي سكريبال وابنته في لندن. وعندما منعت السلطات البريطانية في مايو من عام 2018 أبراموفيتش من دخول لندن بحجة انتهاء تأشيرته قرر أنه حان الوقت -وهو اليهودي الذي تبرّع كثيرًا للمستعمرات الصهيونية في فلسطين- للحصول على الجنسية الإسرائيلية. ورغم أنه حصل عليها بالفعل، وبات يدخل بريطانيا بها، إلا أن ذكاءه لم يسعفه للتوصل إلى أن بريطانيا لم تعد مكانًا آمنًا لاستثماراته في ظل حكم بوتين لروسيا.
في العاشر من مارس الجاري أعلنت الحكومة البريطانية فرض حظر على الملياردير الروسي، وتجميد ممتلكاته ومصادرتها، بما في ذلك المعاملات مع الأفراد والشركات في المملكة المتحدة، ومنها ملكية نادي تشيلسي الإنجليزي الذي كان أبراموفيتش قد عرضه للبيع قبل هذا القرار، وهو ما سيحرمه من إتمام هذه الصفقة. برر رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون هذا القرار بأنه "لا يمكن أن تكون هناك ملاذات آمنة لأولئك الذين دعموا هجوم بوتين الشرس على أوكرانيا". وللتذكير فإن جونسون نفسه عندما اعتدت إسرائيل العام الماضي على غزة ودكتها بالصواريخ موقعة عشرات الشهداء الفلسطينيين، كان موقفه الاكتفاء بدعوة الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى "ضبط النفس"! رغم أن أبراموفيتش -كما ذكرنا- كان أحد أصحاب الجنسية الإسرائيلية حينها، وأحد ممولي المستعمرات اليهودية في فلسطين!
نظريًا، فإن أوكرانيا التي غزاها بوتين هي بلاد أبراموفيتش الذي كان أبوه وأمه اليهوديان يعيشان فيها عندما غزاها هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، وقد عانى كلاهما من ويلات هذه الحرب. أما عمليا، فإن أبراموفيتش لم يستطع التخلص من "وصمة" صداقته ببوتين، حتى وإن حاول النأي بنفسه عن مغامرته الأخيرة معلنًا أن قيمة صفقة بيع تشيلسي ستذهب لضحايا الحرب في أوكرانيا، وحتى إن أجبر قبل ذلك دار النشر البريطانية الشهيرة هاربر كولينز على الاعتذار له عن ادعاءات الصحفية كاثرين بيلتون في كتابها "رجال بوتين" بأن أبراموفيتش اشترى تشيلسي بأوامر من الرئيس بوتين، مؤكدة -أي دار النشر- أن هذه المعلومة بالذات غير دقيقة.
الآن، فإن استعادة الملياردير الروسي لأمواله وحظوته مرهونة بانتهاء الحرب الروسية الأوكرانية التي سعى نفسه لإيقافها بطلب من أوكرانيا، وحضر جولة من المفاوضات بين الروس والأوكرانيين على الحدود الأوكرانية البيلاروسية، كما صرحت بذلك صحيفة "جيروزاليم بوست" الإسرائيلية. لكن هذه المفاوضات باءت بالفشل كما هو معروف. ومَنْ له خبرة بشخصية الرئيس بوتين وعناده سيقول إنه لن يخرج من أوكرانيا إلا بعد أن يحقق كل أهدافه، ما يعني أن ثروة صديقه القديم ستذهب أدراج الرياح. ولن يبقى له إلا أن يصْفِق كفًّا بكف مرددًا المثل العربي: "ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع".
