تمويل العلوم ونموذج اللامركزية
يواجه قطاع البحث العلمي والابتكار تحدياتٍ مفصلية وخاصة في الدول التي لا تعمل على استدماج اقتصاد المعرفة ضمن هياكلها الاقتصادية، ذلك أنه غالبًا ما يكون الضحية الأولى في واجهة التقشف وتقليص الموازنات وإعادة ترتيب أولويات الإنفاق. ورغم أن بيانات المنتدى الاقتصادي العالمي تشير إلى أن الاستثمار العالمي في الابتكار ظل منتعشًا طوال عام 2020 برغم تقلبات الجائحة وأنه وفقًا لمؤشر الابتكار العالمي فقد زادت الشركات العالمية المنفقة على البحث والتطوير في عام 2020 بنحو 10% إلا أن هذه المؤشرات ظلت متركزة في الاقتصادات المستندة إلى عمليات المعرفة، وإنتاجها، ومعتمدة في المقام الأول على تطور هياكل البيئات الصديقة للابتكار، ولذلك نجد على سبيل المثال أن دول (سويسرا - السويد - الولايات المتحدة - المملكة المتحدة - كوريا الجنوبية) ظلت تتبادل المقاعد في مقدمة اقتصادات (تسهيل الابتكار) باستثناء الصعود الأول لكوريا الجنوبية إلى قائمة الخمسة الكبار. وبالتالي ليست هناك ضمانات تقدمها المؤشرات الدولية والتشخيصات الجارية لواقع البحث العلمي والابتكار في مسألة ضمان أن كل الاقتصادات تسير في اتجاه متواز في مسألة إنفاقها على أنشطة البحث العلمي والابتكار أو تعزيز مصادر التمويل الموجهة له.
على المدى تُطرح قضية مصادر تمويل البحث العلمي كإحدى القضايا المحورية في ضوء عدة ملابسات: أهمها قدرة الموازنات العمومية للحكومات المركزية على استدامة تمويل أنشطة البحث العلمي والابتكار، وصعود أولويات تنموية واقتصادية مستجدة نتيجة الأوضاع الاقتصادية العالمية، والحاجة إلى ضمان بناء منظومات حماية اجتماعية وشبكات أمان مجتمعي لحماية الفئات الأكثر احتياجًا عوضًا عن الالتزامات والمخاطر العابرة للحدود التي تفرض ضغطوها الاقتصادية والمالية على الموازنات العمومية. كل تلك الملابسات تضرب بطريقة مباشرة أو غير مباشرة مدى بقاء البحث العلمي والابتكار على قائمة الأولويات الحكومية، ومدى قدرة الموازنات على استدامة تمويل المنح والأنشطة المتصلة بهذا القطاع. ولكن في المقابل يتم الحديث اليوم وبشكل موسع عن صعود قوة "العمل الخيري العلمي" في إشارة إلى دور منح المسؤولية الاجتماعية للقطاع الخاص إضافة إلى الهبات الخيرية أو عطاءات المناحين وأوقاف البحث العلمي في تشكيل مصادر تمويل مستديمة تخفف الضغط عن الموازنات العمومية، يقول إيفان ميشيلسون مؤلف كتاب Philanthropy and the Future of Science and Technology إن ميزة تمويل البحث العلمي والابتكار من خلال العمل الخيري تتضمن ثلاث مزايا أساسية:
1. تعزيز البحث الاستباقي: الذي يتطلع إلى الأمام ويبحث عن اكتشافات جديدة.
2. النهج التداولي والشامل: الذي يشارك بشكل أفضل ويدمج أفراد المجتمع في عملية البحث.
3. اعتماد انعكاسات البحث ومخرجاته والتجاوب معها من قِبل الممولين (جنبًا إلى جنب مع أولئك الذين يجرون البحوث) لضمان مراعاة القيم المجتمعية والعامة ودمجها في بداية أي جهد بحثي.
وبالتالي فإن ميزة التمويل الخيري لأنشطة البحث العلمي والابتكار أنه غالبًا ما يكون مدفوعًا بهاجس المشكلات الرئيسية التي يعانيها المجتمع المحلي، وأكثر استشعارًا لمتطلبات ومقاربات تنميته، عوضًا عن أن الربط بين الممولين أو أصحاب العطاءات (الذين غالبًا ما يكونوا أصحاب أعمال أو شركات) يضمن أن مخرجات البحث العلمي والابتكار قد تجد ضالتها إلى التحول كمشروعات تنموية أو اقتصادية نظير حرص المانح على رؤية ناتجها في مجتمعه أو أعماله. وهذا لا يغفل أيضًا بعض السلبيات المرتبطة بهذا الشكل من التمويل الذي قد يتعرض أيضًا لتحيز أجندة الممول، كما أنه قد يهمل الإطار الكوني للمخاطر المحتملة التي تحتاج إلى التعرض بالبحث والدراسة. ففي التشخيص الذي قدمه ميشيلسون على سبيل المثال فإنه من بين 730 مليار دولار من إجمالي التبرعات الخيرية في عام 2019، تم تقديم 5 إلى 9 مليارات دولار فقط لمسألة التخفيف من آثار تغيّر المناخ التي تعتبر اليوم قضية كونية حاسمة وملحّة.
هذا الشكل من أشكال التمويل صعد بشكل موسع في أواخر القرن الفائت مع تضاؤل الدعم الحكومي لأنشطة البحث العلمي والابتكار، ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال وبين عامي 1983 و1995، انخفض التمويل الحكومي للجامعات من 85% إلى 67%. في مقابل صعود دور الجمعيات الخيرية كثاني مصدر ضمن ترتيب مصادر تمويل البحث العلمي في الجامعات البريطانية بنسبة 15% في عام 2015 بحسب دراسة نيكولاس ماثيوز حول دور التمويل الخيري للبحث العلمي. عوضًا عن ذلك هناك دور آخر متصاعد للحكومات المحلية في دعم أنشطة البحث العلمي. في الصين مثلًا التي تتصدر دول العالم في الإنفاق على البحث والتطوير، في عام 2020، ساهمت الحكومة المحلية بحوالي 30% في الاستثمار العام للبلاد في البحوث الأساسية كما كشفت عنه دراسة Public funding and the ascent of Chinese science: Evidence from the National Natural Science Foundation of China وهذا ما يقودنا إلى محاولة تقصي المسألة في سياقنا المحلي، ففي ظل تحول النموذج التنموي إلى اللامركزية الإدارية والاقتصادية، يمكن التفكير في إنشاء صناديق بحثية أو أوقاف بحثية على مستوى المحافظات تدار من خلال مكاتب المحافظين، ويكون تمويلها عبر جزء من مخصصات برامج تنمية المحافظات، بالإضافة لمساهمة الشركات الكبرى العاملة في نطاق المحافظة، وفتح المجال لعطاءات المانحين من الأفراد والمؤسسات الأخرى، بحيث تتوجه تلك المبالغ للإنفاق على أنشطة البحث العلمي والابتكار في مؤسسات التعليم العالي داخل المحافظة، أو للفرق البحثية التي تتقدم للحصول على البرامج المصممة ضمن أعمالها (شريطة وجود حوكمة معينة للناتج البحثي)، بحيث تلامس المشروعات الممولة عبر هذه الصناديق أولويات المحافظة الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، وتسهم في تقديم البدائل العلمية والمبتكرات التي تسرع من تنمية المحافظة من ناحية، وتؤسس القرار المحلي على الأدلة من ناحية أخرى، وتدمج الباحثين العلميين والأكاديميين في مشروع تنمية المحافظة بما يعزز سرعة التحول ويحقق الرضا المجتمعي ويجود مسائل التخطيط والتنفيذ القائمة.
