صانعُ الضوء.. في رحلته للسماء

06 فبراير 2022
06 فبراير 2022

((لم يكن هلال العامري محض مدير يحضر لتوثيق اسمه في الصور وتثبيت حضوره في دوائر الضوء المصنوعة، بل كان أبا يرعى باهتمام وينقد محبة، ويتابع بحرص))

"في رثاء الشاعر الإنسان الشيخ هلال العامري "

نعيش ما يكفي لتعبر أيامنا وذاكرتنا وجوه كثيرة، وشخصيات مختلفة، يمر أغلبها عبورا بلا أثرٍ يبقى أو حرفٍ يُسقى، ويأبى بعضُها إلا أن ينقشَ سطرا مضيئا في أعماقنا القصيّة لا يمكن معه إلا أن نسمو بإنسانيتنا لنذكرهم بحب و نحدّث عنهم بوفاء، علّنا نبلغ بعض ما تركوا في أنفسنا من أثر وفي حيواتنا من ضوء.

ومما أعرف عن نفسي أنني لا أحسن الرثاء ولا أحبه، بل إني أنفر منه ما استطعت لذلك سبيلا، رثاؤنا الأعمق هو ما تبقى في أرواحنا بعد الغياب الكبير، وبعد الصخب الوفير. حينها فقط تهدأ النفوس لتتلمس متعلقات من فقدنا وأقواله وآثاره، ونغيب بها ومعها آملين أن يسكّن ذلك شعث وجع الفقد، ويُخدّرَ آلام البعد.

وها أنا أكتب هنا في شاعر والد؛ اعتبرته وكثير من الشعراء والشاعرات- بل لا أبالغ إن قلت الأدباء العمانيين عامة ممن هم في جيلي أو من أتى بعدنا- والدا معنويا وداعما سخيّا.

ذلك هو الشاعر الشيخ هلال بن محمد العامري الذي ارتبط اسمه بيننا بالملتقى الأدبي، ولمن لا يعرف الملتقى الأدبي ينبغي الإشارة إلى أنه لم يكن مجرد فعالية سنوية تمر لتزيد عددا أو توثق مادة وحسب. كان الملتقى الأدبي لعقود مرتبطا باسم هلال العامري، ليس لأنه كان مسؤولا إداريا فحسب، بل لأنه كان راعيه ومتعهده والمسكون به. كيف لا وهو الشاعر المسكون بالكلمة، المعجون بآمالها وآلامها، بتأملاتها وتشكلاتها؟!.

لم يكن هلال العامري محض مدير يحضر لتوثيق اسمه في الصور وتثبيت حضوره في دوائر الضوء المصنوعة، بل كان أبا يرعى باهتمام وينقد محبة، ويتابع بحرص.

وكم كنت وزملائي وزميلاتي نخجل من تكاسلنا أو أعذارنا حين نجده سبّاقا ببشاشته وأناقة حضوره لمتابعة جلسات الملتقى الأدبي منذ الصباح الباكر وحتى الليل.

بقي ذلك منهجه حتى حينما بدأ جسده النحيل يخذله دون أن تخذله همته العالية، فلم يعترف بالمرض ولم يركن للدعة.

لم نعرف هلال العامري إداريا عابرا، بل عرفناه إنسانا كامل المحبة، رائع الأثر، سخيّ الحضور.

جمع العامري في الملتقى الأدبي بين فنون حلمنا باجتماعها فكان بيننا الشاعر والقاص والفنان والمسرحي والإعلامي والناقد، كل ذلك في الملتقى، وكل أولئك في قلب هذا الرجل الذي أخذ على عاتقه (وهو المحب للأدب والثقافة) أن يوزع دعمه ومحبته بيننا (ونحن كثر).

سيرة هلال العامري أكبر من الملتقى الأدبي، وحياته أغنى من اجتماعنا على محبته والدعاء له، لكننا ربطناه بالملتقى وبنا لأننا أحببنا أن يكون الشاعر راعيا للثقافة، شاعرا بها وبطلابها ومريديها. ولأنه شاعر مبدع، ولأنه إنسان عطّل موكب أحلامه ليدفع عجلات أحلامنا، وكان وهو المسكون بالكثير لا يظهر إلا سخاء البسمة، ونقاء السريرة، حتى ليَظنُّ محاوروه أنه طمأنينة تمشي على الأرض.

من لم يعد من موكب العامري بتحققٍ عبرَ فوزٍ أو جائزةٍ أو حضورٍ فقد عاد منه بأثر لا يُنسى لا محالة.

أنهي هذه العجالة الحزينة بقصيدة عجلى كتبتها في عام 2009م بالملتقى الأدبي بالبريمي حينها، حين كان الجميع يتهامسون بخبر ترك الشيخ هلال العامري للملتقى الأدبي؛ طفله الأثير غير الوحيد:

صانع الضوء

للشاعر الشيخ هلال بن محمد العامري

لأحرفِ موسمٍ سارت به الأصواتُ

نغزلُ ما ترسّبَ من فتاتِ الروحِ في الكلماتْ

يرقبُ صانعو ضوءِ الكتابةِ دفقةً أولى

هي الكلماتُ لعبتُنا

رواءُ يبابِ أنفسِنا

وماءُ الروحِ إن ضاقت بكاتبِها حدودُ الماءْ

هي الغيماتُ أجملُ مَن تحمّلنا

وأطهرُ عابرٍ سيجيءُ..

أسخى من سنطلُبُه جزيلَ نقاءْ

وبين حديث من كانوا هنا ضوءا لهذا الموسم الغالي

ومن حضروا لصنع الضوءِ..

من سيجيء بعد مواسمٍ أغلى

نقولُ: الحرفُ عالمُنا

وصانعُ ضوئِنا يشتاقُ أوبتَه

لتحرسَ كلُّ أصواتِ الأحبةِ خطوَه الوضاء ْ

أمومةُ قلبه نهرٌ يُخضِّل طفلَ أحرفِنا

سنعبرُه لكلِّ غمامةٍ بَعُدَت.. لأيِّ سماءْ

وها تترقبُ الأصواتُ ظلَّ الصانعِ الأولْ

وها يأتي:

تناهبه الفصولُ وعابروها

وما ضنّت بأوبته الفصولُ

أضاء الليلَ مفترشا فؤادا

يُسيّرُه إلى الأغلى ذهولُ

أضاء النخلَ محترقا هياما

ليكبرَ عبر جذوته الفسيلُ

يوزعُ قلبَه في كلِّ قلبٍ

كذا للصحب يلتفت النبيلُ

رسالةُ جيبِ خافقِه تجلّت

فما تعبت ولا تعبَ الرسولُ

وها أصواتُنا تأتي

مُضمَّخة بلونِ حضورِ راعيها

مُهدهِدةً لجهدِ الصانع الأولْ

ليهمسَ صوتُ أجملها:

أضاءوني وأيَّ أسىً أضاءوا

ليوم ٍفيه يُستلبُ الضياءُ

• حصة البادي شاعرة وأكاديمية عمانية