اللامركزية .. فرصة للكفاءات الشبابية وللمجتمع أيضا
عندما أشار حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حفظه الله ورعاه، خلال لقاء جلالته في حصن الشموخ مع شيوخ وأبناء محافظتي الداخلية والوسطى الأسبوع الماضي إلى أنه حان الوقت للأخذ باللامركزية، فإن جلالته بذلك وضع المجتمع العماني أمام مرحلة على جانب كبير من الأهمية والتأثير في حركته نحو المستقبل وتحقيق الأولويات المنشودة في الرؤية المستقبلية «عمان 2040». ومع الوضع في الاعتبار حقيقة أن الاتجاه نحو اللامركزية في السلطنة بدأ في الواقع عبر خطوات متتابعة، بدأت بإنشاء البلديات وتقسيم السلطنة إلى ولايات ومحافظات، ثم تطوير الأداء في المحافظات، وكذلك عبر تشكيل المجالس البلدية في المحافظات وذلك من خلال الانتخابات التي جرت في عام 2016، فإن إصدار قانون المحافظات وتطوير عمل المحافظين ومهامهم والذي صدر في إطار العملية الضخمة والمتكاملة لإعادة هيكلة الجهاز الإداري للدولة بعد تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم قد شكل في الواقع الأرضية التي ترتكز عليها مرحلة الانطلاق نحو تفعيل وتنشيط اللامركزية على مستوى الأداء والعمل الإداري والتنموي في سلطنة عمان، وعلى نحو يتيح الفرص بشكل أكبر وأوسع، وعلى نحو مستمر كذلك، للاستفادة من الكثير من الإمكانات الوطنية، بشرية ومادية وتنظيمية وغيرها، ضمن إطار متكامل ومتناغم تتضافر فيه كل الجهود، وعلى مستوى كل القطاعات، من أجل تحقيق أهداف وأولويات التنمية الوطنية، على الأجلين القصير والبعيد أيضا. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:
أولا: إنه في مجال علوم الإدارة بوجه عام، وعلى مستوى العمل الإداري والتنظيمي في الدول والمؤسسات أيضا بشكل عام فإن اللامركزية ليست شعارا، ولكنها أسلوب محدد يتم اتخاذه واعتماده لتسيير وتسهيل العمل والأداء على المستويات الإدارية والتنظيمية المختلفة، ليس فقط لتخفيف الأعباء عن السلطات المركزية في مرحلة أو أخرى، ولكن أيضا لإتاحة الفرصة لمزيد من المشاركة، وللاستفادة بإمكانات متاحة ومتوفرة بشكل أكبر في المستويات الإدارية والتنظيمية الفرعية.. وإذا كانت المركزية مطلوبة وضرورية في المراحل الأولى للتنمية الوطنية، بحكم ضرورات واعتبارات كثيرة، منها على سبيل المثال حجم الموارد المتاحة، وعدم توفر الكفاءات والمهارات البشرية القادرة على تحمل أعباء ومسؤوليات العمل في المستويات الفرعية، في المؤسسات الإدارية، وعلى مستوى المحافظات والولايات فإن التطور التنموي والإداري وتوفر الكفاءات الوطنية ووضوح واستقرار الرؤية التنموية والأولويات والأهداف على الصعيد الوطني، وبالنسبة للقطاعات المختلفة أيضا أصبح بمثابة حافز للإنتقال إلى تطبيق اللامركزية بشكل أكبر وأوسع على المستوى الوطني العماني، ومما لا شك فيه أن هذا التوقيت هو التوقيت الملائم لإعطاء دفعة كبيرة لتطبيق أساليب اللامركزية على الصعيدين الإداري والتنموي في السلطنة، بعد الخطوات والإجراءات التي تم اتخاذها لتوفير الإطار الضامن لنجاح ذلك قانونيا وإداريا وتنظيميا وتوعويا كذلك. فاليوم، وبعد أكثر من خمسين عاما على انطلاق مسيرة النهضة العمانية الحديثة وبعد الانتقال إلى مرحلتها الثانية عبر النهضة المتجددة فإن الاهتمامات على مستوى الولايات والمحافظات لم تعد مجرد إنشاء مشروعات خدمية أو مشروعات بنية أساسية، أو مد خطوط مياه أو كهرباء واتصالات ولا إنشاء بعض المدارس والمستشفيات ولا حفر بعض الآبار مثلا، فهذه المرحلة تم تجاوزها وأصبحت الاهتمامات والأولويات والتحديات التنموية الآن أكثر تنوعا وتعقيدا بكثير، وليس أدل على ذلك من إشارة جلالته، أعزه الله، خلال اللقاء الأسبوع الماضي إلى قضية تربية الأبناء وأن تربية الأبناء ليست متروكة ولا ينبغي أن تكون متروكة لوسائل التواصل الاجتماعي التي يزداد تأثيرها اتساعا وعمقا وخطورة بالنسبة للأبناء ولمختلف قطاعات المجتمع أيضا، ولكن مهمة تربية الأبناء هي مهمة مجتمعية تقع على عاتق الأسرة والمدرسة والمجتمع بمختلف مؤسساته وأنساقه التراثية والثقافية والفكرية والإعلامية وهو ما يلقي بمسؤولية كبيرة على كل قطاعات المجتمع دون استثناء، ومن ثم تكون اللامركزية في العمل والأداء من أنسب السبل للقيام بما يتطلبه الوفاء بتلك المسؤولية في الحاضر والمستقبل كذلك.
ثانيا: إنه من الأهمية بمكان الوقوف عند نقطة مهمة وهي أن الأخذ بأساليب اللامركزية في العمل والأداء بالنسبة للقطاعات المختلفة وعلى مستوى المحافظات لا يعني على أي نحو تخلّي الحكومة أو السلطة المركزية عن دورها ومهامها المحددة لها في النظام الأساسي للدولة ووفق القوانين المنظمة لذلك إذ أن اللامركزية على المستوى التنظيمي والإداري هي بمثابة تفويض لبعض الاختصاصات وليست إحالة ولا تخليا من جانب السلطة المركزية عن تلك الاختصاصات، ومن ثم فإنه يظل للسلطة المركزية في النهاية حق الرقابة والمتابعة والتدخل عند الحاجة لتعديل أو تصحيح أو حتى الموافقة على بعض الخطوات على الأقل، فاللامركزية على هذا المستوى ليست بالقطع تقسيما للسلطة أو للاختصاصات، فهناك فارق كبير بين تفويض الاختصاصات أو بعضها، وبين تقسيم السلطات. ويظل تفويض الاختصاصات أو منحها أسلوبا لرفع مستوى الأداء، تنظيميا وماليا وإداريا، وليس تقسيما للسلطات، كما قد يظن البعض، خاصة وأن تقسيم السلطات بالمعنى القانوني والسياسي يتطلب إطارا قانونيا وسياسيا حددا، لا يتم الأخذ به إلا في ظروف ووفق أسس سياسية وقانونية بالنسبة لبعض الدول ذات الطبيعة الاتحادية في تكوينها. وعلى ذلك تظل اللامركزية أسلوبا أكثر فعالية للإدارة وللاستفادة بإمكانات المجتمع في القطاعات والمستويات المختلفة. وتظل الحكومة المركزية صاحبة السلطة النهائية وفقا لما تقضي به القوانين والإجراءات المنظمة لتلك العملية.
ثالثا: إنه بعد خمسة عقود من التنمية والبناء الوطني، وبعد جهود مضنية ومتواصلة، أصبح المجتمع العماني قادرا على الانطلاق بفضل وبقوة قواه الذاتية ممثلة في كوادره الشبابية المؤهلة والمدربة على درجة عالية، والتي أثبتت قدراتها الإدارية والتنظيمية والمهنية في مختلف القطاعات. وإذا كان الوقت قد حان لتوسيع نطاق المشاركة على الصعيد الوطني واستيعاب المزيد من الكوادر المؤهلة في مختلف المجالات في دولاب العمل الوطني فإن اللامركزية هي الأنسب في هذا المجال. ولعل ما يعزز ذلك أن صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم وقف بشكل واضح وعميق خلال رئاسة جلالته للجنة الرئيسية لرؤية «عمان 2040»، على مدى حجم وحماسة الشباب العماني وما تتوفر له من مهارات وكفاءات عالية عبرت عن نفسها في المشاركة الفعالة في بلورة أسس وجوانب ومنطلقات رؤية «عمان 2040». وليس من المبالغة في شيء القول بأن الأخذ بأساليب اللامركزية على الصعيد الوطني وتفعيل الدور الذي تضطلع به مجالس المحافظات والتنظيمات البلدية في مستوياتها المختلفة من شأنها ليس فقط استيعاب أعداد كبيرة من الكفاءات الشبابية الوطنية في المحافظات والولايات ولكن أيضا إتاحة الفرصة واسعة ومن خلال العمل والاحتكاك الجماهيري، ففرز وإظهار ودفع الكفاءات التي تثبت جدارتها في العمل الميداني إلى مقدمة الصفوف وبقدر ما تلقي اللامركزية من أعباء على عاتق مجالس المحافظات والبلديات بمستوياتها المختلفة، بقدر ما تتيحه من فرص أيضا لترفيع الكفاءات التي تثبت قدراتها للانتقال من المستوى المحلي في الولايات والمحافظات إلى المستوى الوطني الأوسع على مستوى الدولة ككل. يضاف إلى ذلك أن إعطاء الفرصة والثقة للمجالس البلدية للعمل والمشاركة النشطة في تطوير وتنمية الولايات والمحافظات، وبأفكار نابعة من احتياجات وواقع البلديات والمحافظات من شأنه إثراء التنمية الوطنية على الصعيد الوطني الأوسع، سواء بالعمل على استغلال الإمكانات المتوفرة في المحافظات المختلفة أو الاستفادة بالمزايا النسبية لكل منها، أو بالاستغلال الأمثل للميزانيات التي توفرها الحكومة، ومما له أهمية ودلالة أن جلالته، أعزه الله، وجه بتوفير 20 مليون ريال عماني لكل محافظة، يتم استثمارها على مدى خمس سنوات اعتبارا من هذا العام للإنفاق على تطوير التنمية في المحافظات، ومن شروط الإنفاق أن يكون لدفع وتنشيط المشروعات الصغيرة والمتوسطة واستغلال المزايا النسبية في كل محافظة، واستثمار الموارد المتاحة فيها، وهو ما يعني في النهاية توسيع مساحة ومجالات وفرص الاستفادة من الإمكانات الوطنية المتوفرة في المحافظات، وأن يتم ذلك في إطار أولويات وبرامج خطة التنمية الخمسية العاشرة ( 2021 -2025 ) ورؤية «عمان 2040» أيضا وهو ما يعني ببساطة أن اللامركزية التي سيتم تطبيقها هي لامركزية منضبطة وفي إطار استراتيجية التنمية الوطنية، وعبر متابعة ورقابة الحكومة وبما يتمشى مع خطط التنمية الوطنية في القطاعات المختلفة. وبالتالي فإن اللامركزية بهذا المعنى والمفهوم ستشكل إضافة ذات قيمة لجهود النمية الوطنية الآن وخلال السنوات القادمة، وهى فرصة متاحة وواسعة لكل الشباب النشط والمتحمس للمشاركة في جهود التنمية الوطنية لأن يشمر عن ساعد الجد وأن يسعى للعمل في مختلف المجالات، سواء على مستوى الولايات والمحافظات أو في القطاع الخاص وعلى المستوى الوطني الأوسع، فاللامركزية هي طريق للانتقال من المستويات المحلية إلى المستوى الوطني الأوسع للجادين والمخلصين من الكفاءات الوطنية المؤهلة في مختلف المجالات، وهو ما يعود بالنفع عليها ويحقق أهدافها وأهداف المجتمع والوطن ككل في النهاية.
د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري
